للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ اسْمَ مَرْيَمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُتَرَجِّلَةِ الَّتِي تُكْثِرُ مُجَالَسَةَ الرِّجَالِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ.

(وَالزِّيرُ بِكَسْرِ الزَّايِ الَّذِي يُكْثِرُ زِيَارَةَ النِّسَاءِ) وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مَرْيَمُ فِي لُغَتِهِمْ- أَيْ لُغَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ- بِمَعْنَى الْعَابِدَةِ.

وَتَكَرَّرَ فِعْلُ اصْطَفاكِ لِأَنَّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذَاتِيٌّ، وَهُوَ جَعْلُهَا مُنَزَّهَةً زَكِيَّةً، وَالثَّانِي بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى الْغَيْرِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْأَوَّلُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ. وَعُدِّيَ الثَّانِي.

وَنِسَاءُ الْعَالَمِينَ نِسَاءُ زَمَانِهَا، أَوْ نِسَاءُ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ. وَتَكْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ وَالِاصْطِفَاءُ يَدُلَّانِ عَلَى نُبُوءَتِهَا وَالنُّبُوءَةُ تَكُونُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّسَالَةِ.

وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِقَصْدِ الْإِعْجَابِ بِحَالِهَا، لِأَنَّ النِّدَاءَ الْأَوَّلَ كَفَى فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِقْبَالِهَا لِسَمَاعِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي مُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ الَّذِي يُنْتَقَلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِعْجَابُ بِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

تَقُولُ وَقَدْ مَال الغبيط بنامعا ... عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ

(فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ إِلَى التَّوْبِيخِ) .

وَالْقُنُوتُ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٨] .

وَقدم السُّجُود، لأنّ أَدْخَلُ فِي الشُّكْرِ وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ شُكْرٍ.

وَقَوْلُهُ: مَعَ الرَّاكِعِينَ إِذْنٌ لَهَا بِالصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا مِنْ بَيْنِ نسَاء إِسْرَائِيل إِظْهَارًا لِمَعْنَى ارْتِفَاعِهَا عَنْ بَقِيَّةِ النِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الرَّاكِعِينَ بِعَلَامَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ.

وَهَذَا الْخِطَابُ مُقَدِّمَةٌ لِلْخِطَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: ٤٥] لِقَصْدِ تَأْنِيسِهَا بِالْخَبَرِ الْمُوَالِي لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَاصِلُهُ يَجْلِبُ لَهَا حُزْنًا وَسُوءَ قَالَةٍ بَيْنَ النَّاسِ، مَهَّدَ لَهُ بِمَا يَجْلِبُ إِلَيْهَا مَسَرَّةً، وَيُوقِنُهَا بِأَنَّهَا بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ

تَعْلَمَ بِأَنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهَا مَخْرَجًا وَأَنَّهُ لَا يُخْزِيهَا.