للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٥٩ إِلَى ٦٠]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)

اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ: بَيَّنَ بِهِ مَا نَشَأَ مِنَ الْأَوْهَامِ، عِنْدَ النَّصَارَى، عَن وصف عِيسَى بِأَنَّهُ

كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَضَلُّوا بِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِصَ النَّاسُوتِ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي إِبْطَالِ عَقِيدَةِ النَّصَارَى مِنْ تَأْلِيهِ عِيسَى، وَرَدِّ مَطَاعِنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَقْطَعُ دَلِيلٍ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِإِلَهِيَّةِ عِيسَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ، فَقَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ أَنَّ آدَمَ أَوْلَى بِأَنْ يُدَّعَى لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يكن آدم إلاها مَعَ أَنَّهُ خُلِقَ بِدُونِ أَبَوَيْنِ فَعِيسَى أَوْلَى بِالْمَخْلُوقِيَّةِ مِنْ آدَمَ.

وَمَحَلُّ التَّمْثِيلِ كَون كليهمَا خلق مِنْ دُونِ أَبٍ، وَيَزِيدُ آدَمُ بِكَوْنِهِ مِنْ دُونِ أم أَيْضا، فَلذَلِك احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ وَجْهِ الشَّبَهِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ الْآيَةَ أَيْ خَلَقَهُ دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ بَلْ بِكَلِمَةِ كُنْ، مَعَ بَيَانِ كَوْنِهِ أَقْوَى فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ. وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ نِسْبَتُهُ إِلَى الله لَا يزِيد على آدم شَيْئا فِي كَوْنِهِ خَلْقًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، لَكُمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا خَلْقَهُ الْعَجِيبَ مُوجِبًا لِلْمَسِيحِ نِسْبَةً خَاصَّةً عِنْدَ اللَّهِ وَهِيَ الْبُنُوَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ:

عِنْدَ اللَّهِ نَفْسَ الْأَمْرِ وَالْوَاقِع.

وَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُ لِآدَمَ لَا لِعِيسَى إِذْ قَدْ عَلِمَ الْكُلُّ أَنَّ عِيسَى لَمْ يُخْلَقْ مِنْ تُرَابٍ، فَمَحَلُّ التَّشْبِيهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

وَجُمْلَةُ خَلَقَهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ كَمَثَلِ آدَمَ.

وَثمّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ تَكْوِينَهُ بِأَمْرِ كُنْ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ خَلْقِهِ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ أَسْبَقُ فِي الْوُجُودِ وَالتَّكْوِينُ الْمشَار إِلَيْهِ بكن: هُوَ تَكْوِينُهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ:

كَوَّنَهُ مِنْ تُرَابٍ وَلَمْ يَقُلْ: قَالَ لَهُ كُنْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ أَحْيَاهُ، بَلْ قَالَ خَلَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ.

وَقَوْلُ كُنْ تَعْبِيرٌ عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِتَكْوِينِهِ حَيًّا ذَا رُوحٍ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ التكوين لَيْسَ بصنع يَدٍ، وَلَا نَحْتٍ بِآلَةٍ، وَلَكِنَّهُ بِإِرَادَةٍ وَتَعَلُّقِ قُدْرَةٍ وَتَسْخِيرِ الْكَائِنَاتِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ فِي تَكْوِينِ الْمُرَادِ، حَتَّى تَلْتَئِمَ وَتَنْدَفِعَ إِلَى إِظْهَارِ الْمُكَوَّنِ وَكُلُّ ذَلِكَ