للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنَ اللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ، لُغَةِ إِبْرَاهِيمَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا مَدِينَةَ (بَعْلَبَكَّ) أَيْ بَلَدَ بَعْلٍ وَهُوَ مَعْبُودُ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَمِنْ إعجاز الْقُرْآن اخْتِيَار هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ ذِكْرِ كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ، فَلَاحِظْ أَيْضًا الِاسْمَ الْأَوَّلَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْل: ٩١] وَقَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إِبْرَاهِيم: ٣٥] . وَقَدْ قِيلَ:

إِنَّ بَكَّةَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَكِّ وَهُوَ الِازْدِحَامُ، وَلَا أَحْسَبُ قُصِدَ ذَلِكَ لِوَاضِعِ الِاسْمِ.

وَعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِ الْبَيْتِ بِاسْمِهِ الْعَلَمَ بِالْغَلَبَةِ، وَهُوَ الْكَعْبَةُ، إِلَى تَعْرِيفِهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ بِأَنَّهُ (الَّذِي بِبَكَّةَ) : لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ صَارَتْ أَشْهَرَ فِي تَعَيُّنِهِ عِنْدَ السَّامِعِينَ، إِذْ لَيْسَ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ بَيْتٌ لِلْعِبَادَةِ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ اسْمِ الْكَعْبَةِ: فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْكَعْبَةِ عَلَى الْقُلَّيْسِ الَّذِي بَنَاهُ الْحَبَشَةُ فِي صَنْعَاءَ لِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَقَّبُوهُ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ.

وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ سَبْقِ الْكَعْبَةِ فِي الْوُجُودِ قَبْلَ بُيُوتٍ أُخَرَ مِنْ نَوْعِهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْكَعْبَةَ أَوَّلُ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ، فَتَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ، وَجَمَاعَةٌ، فَقَالُوا: هِيَ أَوَّلُ بِنَاءٍ، وَقَالُوا: أَنَّهَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً مِنْ عَهْدِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ثُمَّ دُرِسَتْ، فَجَدَّدَهَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَتْ فِي هَذَا أَقَاصِيصُ أَسَانِيدُهَا ضِعَافٌ فَلِذَلِكَ تَرَكْتُهَا، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تُسَمَّى الضِّرَاحَ- بِوَزْنِ غُرَابٍ- وَلَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ وَجُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ، وَتَأَوَّلُوا الْآيَةَ.

قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:

«كَانَ قَبْلَ الْبَيْتِ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ»

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَعْبَةَ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ تَعَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ بِنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ لَزِيدَ ذِكْرُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهَا، وَإِذَا كَانَ

كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ بِنَاءٍ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ كَانَ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ، لَأَنَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ أُمَمًا وَعُصُورًا كَانَ فِيهَا الْبِنَاءُ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ بُرْجُ بَابِلَ، بُنِيَ إِثْرَ الطُّوفَانِ، وَمَا بَنَاهُ الْمِصْرِيُّونَ قَبْلَ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا بَنَاهُ الكلدان فِي بدل إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ رِحْلَتِهِ إِلَى مِصْرَ، وَمِنْ ذَلِكَ بَيْتُ أَصْنَامِهِمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ هَاجَرُ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ مَلِكُ مِصْرَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْهُمْ قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الثافات: ٩٧] فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِوَجْهٍ ظَاهِرٍ، وَقَدْ سَلَكَ الْعُلَمَاءُ مَسَالِكَ فِيهِ: وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْوِيلِ الْأَوَّلِ، أَوْ تَأْوِيلِ الْبَيْتِ، أَوْ تَأْوِيلِ فِعْلِ وُضِعَ،