للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» إِذْ قَالَ: «وَهِيَ عِلْمٌ، وَحَالٌ، وَفِعْلٌ. فَالْعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ ضُرِّ الذُّنُوبِ، وَكَوْنِهَا حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ مَا يُحِبُّهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ رَبِّهِ، وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْأَلَمُ يُسَمَّى نَدَمًا، فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ على الْقلب انبعثت مِنْهُ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ هُوَ تَرْكُ الذَّنْبِ (الْإِقْلَاعُ) ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (نَفْيُ الْإِصْرَارِ) ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْمَاضِي بِتَلَافِي مَا فَاتَ» .

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَكَرُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى انْفِعَالِ الْقَلْبِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا إِشَارَةٌ إِلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْإِقْلَاعُ وَنَفْيُ الْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ الْمُثِيرِ لِلِانْفِعَالِ النفساني. وَقد رتّبت هَاتِهِ الْأَرْكَانَ فِي الْآيَةِ بِحَسْبِ شِدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَقْصُودِ: لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَحْصُلُ بَعْدَ الذَّنْبِ، فَيَبْعَثُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ الِاسْتِغْفَارَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْلَا حُصُولُهُ لَمَا كَانَتِ الْفَعْلَةُ مَعْصِيَةً. فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ بَعْدَ الذِّكْرِ وَنَفْيِ الْإِصْرَارِ، عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيب حُصُول مَضْمُونِهَا بَعْدَ حُصُولِ مَضْمُونِ مَا جِيءَ بِهِ قَبْلَهَا فِي الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ.

ثُمَّ إِن كَانَ الْإِصْرَارِ، وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ، كَمَا فُسِّرَ بِهِ كَانَ نَفْيُهُ بِمَعْنَى الْإِقْلَاعِ لِأَجْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ بِحَسْبِ

الظَّاهِرِ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَنْبٍ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِصْرَارِ اعْتِقَادُ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ فَنَفْيُهُ هُوَ التَّوْبَةُ الْخَالِصَةُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الْإِقْلَاعِ مَعَهُ إِذِ التَّلَبُّسُ بِالذَّنْبِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِهِ من الْآن.