للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَالتَّمَنِّي هُوَ تَمَنِّي اللِّقَاءِ وَنَصْرُ الدِّينِ بِأَقْصَى جُهْدِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ اكْتِرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَلَفِ نَفْسِهِ فِي الدِّفَاعِ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ هَلَاكِهِ قَدْ أَبْلَى فِي الْعَدُوِّ، وَهَيَّأَ النَّصْرَ لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَهُ، جَعَلَ تَمَنِّيَهُمُ اللِّقَاءَ كَأَنَّهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، تَنْزِيلًا لِغَايَةِ التَّمَنِّي مَنْزِلَةَ مَبْدَئِهِ.

وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَمْرًا مَعَ الْإِغْضَاءِ عَنْ شِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، فَتَمَنِّيهِمْ إِيَّاهُ كَتَمَنِّي شَيْءٍ قَدْ جَهِلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْمَصَائِبِ.

وَقَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيْ رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ، وَمَعْنَى رُؤْيَتِهِ مُشَاهَدَةُ أَسْبَابِهِ الْمُحَقَّقَةِ، الَّتِي رُؤْيَتُهَا كَمُشَاهَدَةِ الْمَوْتِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ تَمْثِيلًا، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ الرُّؤْيَةُ عَلَى شِدَّةِ التَّوَقُّعِ، كَإِطْلَاقِ الشَّمِّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ:

وَشَمَمْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ ... فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ

وَكَإِطْلَاقِهِ فِي قَول ابْن معد يكرب يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ: فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ فَاءُ الْفَصِيحَةِ عَنْ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ وَالتَّقْدِيرُ:

وَأُجِبْتُمْ إِلَى مَا تَمَنَّيْتُمْ فقد رَأَيْتُمُوهُ، أَو التَّقْدِير: فَإِن كَانَ تمنّيكم حقّا فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، وَالْمَعْنَى: فَأَيْنَ بَلَاءُ مَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:

قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الْفرْقَان: ١٩] وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٦] : فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ.

وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى رَأَيْتُمُوهُ، أَوْ هُوَ تَفْرِيعٌ أَيْ: رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ وَكَانَ حَظُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرَ، دُونَ الْغَنَاءِ فِي وَقْتِ الْخَطَرِ، فَأَنْتُمِِْ