للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١٧٢)

قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ عَطْفٌ على قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمرَان:

١٦٨] ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا فِيهِ تَبْكِيتُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ إِخْوَانِهِمْ قَدْ ذَهَبُوا سُدًى، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَوْتَ لَا مَفَرَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَعْرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ خِطَابِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِيَّتِهِمْ، وَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ مَنْ يَسْتَأْهِلُ الْمَعْرِفَةَ، فَقَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً وَهُوَ إِبْطَالٌ لِمَا تَلَهَّفَ مِنْهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى إِضَاعَةِ قَتْلَاهُمْ.

وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهُ، وَلِيُعَلِّمَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي عَدَمِ إِرَادَةِ مُخَاطَبٍ مُعَيَّنٍ.

وَالْحُسْبَانُ: الظَّنُّ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ وَبِالْأَحْرَى يَكُونُ نهيا عَن الْجَزْم بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الَّذِينَ قُتِلُوا- بتَخْفِيف التَّاء- وقرأه ابْنُ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- أَيْ قُتِّلُوا قَتْلًا كَثِيرًا.

وَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فَلِذَلِكَ كَانَ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ غَيْرُ مُفْرَدٍ، لِأَنَّهَا أَضْرَبَتْ عَنْ حُكْمِ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تُضْرِبْ عَنْ مُفْرَدٍ مِنَ الْجُمْلَةِ، فَالْوَجْهُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنْ تَكُونَ اسْمِيَّةً مِنَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ وَالْخَبَرِ الظَّاهِرِ، فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهُ السَّبْعَة- بِالرَّفْع-، وقرىء- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ فِعْلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَحَسِبْتُمْ أَحْيَاءً، وَأَنْكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ.

وَقَدْ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ لِلْمُجَاهِدِينَ مَوْتًا ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: قُتِلُوا، وَنَفَى عَنْهُمُ الْمَوْتَ الْحَقِيقِيَّ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَمْوَاتَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ

أَحْيَاءُ الْأَرْوَاحِ، حَيَاةً زَائِدَةً عَلَى حَقِيقَةِ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ، غَيْرَ مُضْمَحِلَّةٍ، بَلْ هِيَ حَيَاةٌ بِمَعْنَى تَحَقُّقِ آثَارِ الْحَيَاةِ لِأَرْوَاحِهِمْ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّاتِ وَالْمُدْرَكَاتِ السَّارَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمَسَرَّتِهِمْ بِإِخْوَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ حياتهم حَيَاة خَاصَّةٌ بِهِمْ، لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَعَارَفَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، أَعْنِي حَيَاةَ