للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهُوَ بَدْرٌ، فَلَمْ يَجِدُوا الْمُشْرِكِينَ وانتظروهم هُنَالك، وَكَانَتْ هُنَالِكَ سُوقٌ فَاتَّجَرُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ غَيْرَ مَذْمُومِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَيِ الرَّكْبُ الْعَبْدِيُّونَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَيْ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ جَمَعُوا أَيْ جَمَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَعَدَدَهُمْ وَأَحْلَافَهُمْ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ الْأَوَّلِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ لَفْظَ النَّاسَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، وَجَعَلُوهُ شَاهِدًا عَلَى اسْتِعْمَالِ النَّاسِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسَ مُرَادًا بِهِ وَاحِدٌ أَوْ نَحْوُهُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي بِ (النَّاسَ) مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَوْلُهُ: فَزادَهُمْ إِيماناً أَيْ زَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ الْمُسْتَتِرِ فِي

فَزادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ فِعْلِ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسُ، ولمّا كَانَ ذَاك الْقَوْلُ مُرَادًا بِهِ تَخْوِيفُ الْمُسْلِمِينَ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ قَصْدِهِمْ. وَحَصَلَ مِنْهُ خِلَافُ مَا أَرَادَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، جَعَلَ مَا حَصَلَ بِهِ زَائِدًا فِي إِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيمَانَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ الْعَزْمِ عَلَى النَّصْرِ وَالْجِهَادِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَمَسْأَلَةُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِيمَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٣] يَعْنِي صَلَاتَكُمْ. أَمَّا التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، فَلَا يَقْبَلُ النَّقْصَ، وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَلِذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اللَّفْظِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ إِذَا تَكَرَّرَتْ أَدِلَّتُهُ، أَوْ طَالَ زَمَانُهُ، أَوْ قَارَنَتْهُ التَّجَارِبُ، يَزْدَادُ جَلَاءً وَانْكِشَافًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَلَكَةِ، فَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ، بِقَرِينَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُطْلِقْ وَصْفَ النَّقْصِ فِي الْإِيمَانِ بَلْ مَا ذَكَرَ إِلَّا الزِّيَادَةَ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠] .