للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَعْنَى نَفْيِ إِضَاعَةِ عَمَلِهِمْ نَفْيُ إِلْغَاءِ الْجَزَاءِ عَنْهُ: جَعْلُهُ كَالضَّائِعِ غَيْرِ الْحَاصِلِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ.

فَنَفْيُ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ وَعْدٌ بِالِاعْتِدَادِ بِعَمَلِهِمْ وَحُسْبَانِهِ لَهُمْ، فَقَدْ تَضَمَّنَتِ الِاسْتِجَابَةُ تَحْقِيقَ عَدَمِ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ مِنْ وَجَلِ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمرَان: ١٩٤] تَحْقِيقَ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْحَبَطِ.

وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَيَانٌ لِعَامِلٍ وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ هُنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَتَوْا بِهَا أَكْبَرُهَا الْإِيمَانُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ أَكْثَرَ تَكَرُّرًا خِيفَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَا حَظَّ لَهُنَّ فِي تَحْقِيقِ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَدَفَعَ هَذَا بِأَنَّ لِلنِّسَاءِ حَظَّهُنَّ فِي ذَلِكَ فَهُنَّ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ يُسَاوِينَ الرِّجَالَ، وَهُنَّ لَهُنَّ حَظُّهُنَّ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ لِأَنَّهُنَّ يَقُمْنَ عَلَى الْمَرْضَى وَيُدَاوِينَ الْكَلْمَى، وَيَسْقِينَ

الْجَيْشَ، وَذَلِكَ عَمَلٌ عَظِيمٌ بِهِ اسْتِبْقَاءُ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ لَا يُقْصَرُ عَنِ الْقِتَالِ الَّذِي بِهِ إِتْلَافُ نُفُوسِ عَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (مِنْ) فِيهِ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ بَعْضُ الْمُسْتَجَابِ لَهُمْ مُتَّصِلٌ بِبَعْضٍ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ بِمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ وَاحِدٌ وَأَمْرَهُمْ سَوَاءٌ. قَالَ تَعَالَى:

الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ [التَّوْبَة: ٦٧] إِلَخْ ... وَقَوْلُهُمْ: هُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَفِي عَكْسِهِ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَدْ حَمَلَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ نِسَاءَكُمْ وَرِجَالَكُمْ يَجْمَعُهُمْ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أَيْ لِأَنَّ شَأْنَكُمْ وَاحِدٌ، وَكُلٌّ قَائِمٌ بِمَا لَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَضَاعَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا سَوَاءً فِي تَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: ٣٢] .