للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الْمُمْتَحَنَةِ شَرْطَ إِرْجَاعِ مَنْ يَأْتِي الْمُشْرِكِينَ هَارِبًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ عَدَا النِّسَاءِ، وَهِيَ آيَةُ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: ١٠] الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آيَةَ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ يَتِيمٌ، وَغَطَفَانُ أَسْلَمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ، إِذْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ، أَيْ بَعْدَ سَنَةِ خَمْسٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ عِنْدَ الْهِجْرَةِ. وَهُوَ بَعِيدٌ. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ لأنّها افتتحت بيا أَيُّهَا النَّاسُ، وَمَا كَانَ فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَهُوَ مَكِّيٌّ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْفَتْحِ لَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَكِّيَّ بِإِطْلَاقَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ صَدْرُهَا بِمَكَّةَ وَسَائِرُهَا بِالْمَدِينَةِ. وَالْحَقُّ أنّ الْخطاب بيا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى إِرَادَةِ دُخُولِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْخِطَابِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، وَلَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَدَنِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَانْتِظَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. وَفِيهَا آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَالتَّيَمُّمُ شرع يَوْم غزَاة الْمُرَيْسِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ.

فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ نُزُولَ سُورَةِ النِّسَاءِ كَانَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ وَطَالَتْ مُدَّةُ نُزُولِهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِيهَا مُفَصَّلَةٌ تَقَدَّمَتْ مُجْمَلَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْتَامِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَوَارِيثِ، فَمُعْظَمُ مَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ شَرَائِعُ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي مُعْظَمِ نَوَاحِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ نُظُمِ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْحُكْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ مِنْهَا، وَهِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، هِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ نُزُولِ سَائِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَبَيْنَ نُزُولِ آيَةِ الْكَلَالَةِ، الَّتِي فِي آخِرِهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ أُمِرُوا بِإِلْحَاقِهَا بِسُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي فِيهَا الْآيَةُ الْأُولَى. وَوَرَدَتْ فِي السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ آيَةِ الْكَلَالَةِ الْأُولَى آيَةَ الشِّتَاءِ، وَآيَةِ الْكَلَالَةِ الْأَخِيرَةِ آيَةَ الصَّيْفِ. وَيَتَعَيَّنُ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النِّسَاء: ٧٥] يَعْنِي مَكَّةَ. وَفِيهَا آيَةُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاء:

٥٨] نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الشَّيْبِيِّ، صَاحِبِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سِوَى تَحْقِيرِ دِينِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا

عَظِيمًا- فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا» إِلَخْ،