للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى وَحَذَّرَ، عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَلْوُوا- بِلَامٍ سَاكِنَةٍ وَوَاوَيْنِ بَعْدَهَا، أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ- فَهُوَ مُضَارِعُ لَوَى، وَاللَّيُّ: الْفَتْلُ وَالثَّنْيُ. وَتَفَرَّعَتْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَانٍ شَاعَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ، مِنْهَا: عُدُولٌ عَنْ جَانِبٍ وَإِقْبَالٌ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَإِذَا عُدِّيَ بِعَنْ فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَجْرُورِ بِعَنْ، وَإِذَا عُدِّيَ بِإِلَى فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنْ جَانِبٍ كَانَ فِيهِ، وَإِقْبَالٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [آل عمرَان: ١٥٣] أَيْ لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: لَوَى عَنِ الْأَمْرِ تَثَاقَلَ، وَلَوَى أَمْرَهُ عَنِّي أَخْفَاهُ، وَمِنْهَا: لَيُّ اللِّسَانِ، أَيْ تَحْرِيفُ الْكَلَامِ فِي النُّطْقِ بِهِ أَوْ فِي مَعَانِيهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٨] ، وَقَوْلِهِ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦] .

فَمَوْقِعُ فِعْلِ تَلْوُوا هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِهِ الْمَحْذُوفِ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَنْ) أَوْ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَلَى) فَيَشْمَلُ مَعَانِيَ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ فِي الْحُكْمِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوِ التَّثَاقُلِ فِي تَمْكِينِ الْمُحِقِّ مِنْ حَقِّهِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِطَالِبِهَا، أَوِ الْمِيلِ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَضَاءِ وَمِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْمُمَاطَلَةُ فِي الْحُكْمِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّيِّ كَمَا رَأَيْتَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخلف: وَإِنْ تَلْوُوا- بِلَامٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ- فَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعُ وَلِيَ

الْأَمْرَ، أَيْ بَاشَرَهُ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَلُوا الْقَضَاءَ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ تَعْدِلُوا وَلَا يَتَّجِهُ رُجُوعُهُ إِلَى الشَّهَادَةِ، إِذْ لَيْسَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِوِلَايَةٍ. وَالْوَجْهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَخْفِيفُ تَلْوُوا نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا فَالْتَقَى وَاوَانِ سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا.

وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً كِنَايَةٌ عَنْ وَعِيدٍ، لِأَنَّ الْخَبِيرَ بِفَاعِلِ السُّوءِ، وَهُوَ قَدِيرٌ، لَا يُعْوِزُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ ب «إنّ» و «كَانَ» .