للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٤٨ إِلَى ١٤٩]

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)

مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَوَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ وَشَهَّرَ بِفَضَائِحِهِمْ تَشْهِيرًا طَوِيلًا، كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِحَيْثُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ نُفُورًا مِنَ النِّفَاقِ وَأَحْوَالِهِ، وَبُغْضًا لِلْمَلْمُوزِينَ بِهِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ

الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَغِيظَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتَوَسَّمُونَ فِيهِ النِّفَاقَ، فَيُجَاهِرُوهُمْ بِقَوْلِ السُّوءِ، وَرَخَّصَ لِمَنْ ظُلِمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْهَرَ لِظَالِمِهِ بِالسُّوءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ دِفَاعٌ عَنْ نَفْسِهِ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ رِجَالًا اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ»

. الْحَدِيثَ. فَظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ بِمَالِكٍ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، لِمُلَازَمَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلصَّدِّ عَنِ الْمُجَازَفَةِ بِظَنِّ النِّفَاقِ بِمَنْ لَيْسَ مُنَافِقًا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ فَقَدْ ذُكِرَتْ نَجْوَاهُمْ وَذُكِرَ رِيَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذُكِرَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْ إِظْهَارِهِمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ نِفَاقًا فَأَرَادَ اللَّهُ تَبَيُّنَ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ.

وَجُمْلَةُ لَا يُحِبُّ مَفْصُولَةٌ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِهَذَا الْغَرَضِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ: الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهِيَةَ