للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلِمَ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الْإِرْشَادِ فَأَرْشَدَهُمْ، أَوْ أَرَادَ هُدَى النَّاسِ فَأَرْشَدَهُمْ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي مِنْهَا الرِّضَا وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْبَشَرِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ، فَثَبَتَتْ صِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ هِيَ صِفَةُ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَكُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.

أَمَّا تَكْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ عِبَادِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْبَشَرِ فَهُوَ إِيجَادُ مَا يَعْرِفُ مِنْهُ الْمَلَكُ أَوِ الرَّسُولُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى أَوْ يُخْبِرُ. فَالتَّكْلِيمُ تَعَلُّقٌ لِصِفَةِ الْكَلَامِ بِالْمُخَاطَبِ عَلَى جَعْلِ الْكَلَامِ صِفَةً مُسْتَقِلَّةً، أَوْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِإِيصَالِ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، أَوْ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِإِبْلَاغِ الْمُرَادِ إِلَى الْمُخَاطَبِ. فَالْأَشَاعِرَةُ قَالُوا: تَكْلِيمُ اللَّهِ عَبْدَهُ هُوَ أَنْ يَخْلُقَ لِلْعَبْدِ إِدْرَاكًا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ يَتَحَصَّلُ بِهِ الْعِلْمَ بِكَلَامِ اللَّهِ دُونَ حُرُوفٍ وَلَا أَصْوَاتٍ. وَقَدْ وَرَدَ تَمْثِيلُهُ بِأَنَّ مُوسَى سَمِعَ مِثْلَ الرَّعْدِ عَلِمَ مِنْهُ مَدْلُولَ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ. قُلْتُ: وَقَدْ

مَثَّلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ «الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»

، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْمُوعُ لِلرَّسُولِ أَوِ الْمَلَكِ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا بَلْ هُوَ عِلْمٌ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ سَمْعِهِ يَتَّصِلُ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ مِنْ تَعَلُّقَاتِ صِفَةِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالْمُكَلِّمِ فِيمَا لَا يَزَالُ، فَذَلِكَ التَّعَلُّقُ حَادِثٌ لَا مَحَالَةَ كَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَخْلُقُ اللَّهُ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا بِلُغَةِ الرَّسُولِ فَيَسْمَعُهَا الرَّسُولُ، فَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِعِلْمٍ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ، يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، فَهُمْ يُفَسِّرُونَهُ بِمِثْلِ مَا نُفَسِّرُ بِهِ نَحْنُ نُزُولَ الْقُرْآنِ فَإِسْنَادُ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْإِسْنَادِ، عَلَى قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ فِي الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ تَتَّصِفُ بِهَا الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ. وَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ غَيْرُ الْوَحْيِ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِ الرَّسُولِ، وَغَيْرُ التَّبْلِيغِ الَّذِي يَكُونُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ

تَعَالَى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: ٥١] .