للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالدِّينُ: مَا كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعَقَائِدِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالشَّرَائِعِ، وَالنُّظُمِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩] . فَإِكْمَالُ الدِّينِ هُوَ إِكْمَالُ الْبَيَانِ الْمُرَادِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَنْجِيمُهُ، فَكَانَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الِاعْتِقَادِ، الَّتِي لَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ جَهْلُهَا، وَبَعْدَ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ- الَّتِي آخِرُهَا الْحَجُّ- بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبَعْدَ بَيَانِ شَرَائِعِ الْمُعَامَلَاتِ وَأُصُولِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ، كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ تَمَّ الْبَيَانُ الْمُرَادُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْل: ٨٩] وَقَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: ٤٤] بِحَيْثُ صَارَ مَجْمُوعُ التَّشْرِيعِ الْحَاصِلِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَافِيًا فِي هَدْيِ الْأُمَّةِ فِي عِبَادَتِهَا، وَمُعَامَلَتِهَا، وَسِيَاسَتِهَا، فِي سَائِرِ عُصُورِهَا، بِحَسَبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَاتُهَا، فَقَدْ كَانَ الدِّينُ وَافِيًا فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا يَحْتَاجُهُ الْمُسْلِمُونَ. وَلَكِنِ ابْتَدَأَتْ أَحْوَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بَسِيطَةً ثُمَّ اتَّسَعَتْ جَامِعَتُهُمْ، فَكَانَ الدِّينُ يَكْفِيهِمْ لِبَيَانِ الْحَاجَاتِ فِي أَحْوَالِهِمْ بِمِقْدَارِ اتِّسَاعِهَا، إِذْ كَانَ تَعْلِيمُ الدِّينِ بِطَرِيقِ التَّدْرِيجِ لِيَتَمَكَّنَ رُسُوخُهُ، حَتَّى اسْتَكْمَلَتْ جَامِعَةُ الْمُسلمين كلّ شؤون الْجَوَامِعِ الْكُبْرَى، وَصَارُوا أُمَّةً كَأَكْمَلِ مَا تَكُونُ أُمَّةً، فَكَمُلَ مِنْ بَيَانِ الدَّيْنِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ بِحَاجَاتِهِمْ كُلِّهَا، فَذَلِكَ مَعْنَى إِكْمَالِ الدِّينِ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الدِّينَ كَانَ نَاقِصًا، وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الْأُمَّةِ فِي الْأُمَمِيَّةِ غَيْرُ مُسْتَوْفَاةٍ، فَلَمَّا تَوَفَّرَتْ كَمُلَ الدِّينُ لَهُمْ فَلَا إِشْكَالَ عَلَى الْآيَةِ. وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَعَلَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعُ شَيْءٍ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ تَشْرِيعُهُ مِنْ قَبْلُ بِالْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ.

فَمَا نَجِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ، بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِمَّا فِيهِ تَشْرِيعٌ أَنَفَ مِثْلُ جَزَاءِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، نَجْزِمُ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ أُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيءِ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَلَا فَرْضٌ. فَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَضَاعُوا كُلَّ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْقُرْآنُ لَاسْتَطَاعُوا