للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَقَدْ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ وَإِلْهَامِهِ وَنَطَقَ عَنْ مِثْلِ نُبُوءَةٍ.

وَمَصْدَرُ أَنْ تَبُوءَ هُوَ مَفْعُولُ أُرِيدُ، أَيْ أُرِيدُ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنْ أَنْ أَقْتُلَكَ إِنْ أَقْدَمْتَ عَلَى قَتْلِي أُرِيدُ أَنْ يَقَعَ إثمي عَلَيْك، فإثم مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ إِثْمٍ. وَقَدْ أَرَادَ بِهَذَا مَوْعِظَةَ أَخِيهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِثْمِكَ تَذْكِيرًا لَهُ بِفَظَاعَةِ عَاقِبَةِ فِعْلَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النَّحْل: ٢٥] . فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَإِثْمِكَ إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ مَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُرِيدُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ تَذْكِيرًا لِأَخِيهِ بِمَا عَسَى أَنْ يَكُفَّهُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ. وَمَعْنَى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أَيْ مِمَّنْ يَطُولُ عَذَابُهُ فِي النَّارِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ هُمْ مُلَازِمُوهَا.

وَقَوْلُهُ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى التَّفْرِيعِ وَالتَّعْقِيبِ، وَدَلَّ (طَوَّعَ) عَلَى حُدُوثِ تَرَدُّدٍ فِي نَفْسِ قَابِيلَ وَمُغَالَبَةٍ بَيْنَ دَافِعِ الْحَسَدِ وَدَافِعِ الْخَشْيَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُفَرَّعَ عَنْهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَتَرَدَّدَ مَلِيًّا، أَوْ فَتَرَصَّدَ فُرَصًا فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ. فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَقِيَ زَمَانًا يَتَرَبَّصُ بِأَخِيهِ، (وَطَوَّعَ) مَعْنَاهُ جَعَلَهُ طَائِعًا، أَيْ مَكَّنَهُ مِنَ الْمُطَوَّعِ. وَالطَّوْعُ وَالطَّوَاعِيَةُ:

ضِدُّ الْإِكْرَاهِ، وَالتَّطْوِيعُ: مُحَاوَلَةُ الطَّوْعِ. شَبَّهَ قَتْلَ أَخِيهِ بِشَيْءٍ مُتَعَاصٍ عَنْ قَابِيلَ وَلَا يُطِيعُهُ بِسَبَبِ مُعَارَضَةِ التَّعَقُّلِ وَالْخَشْيَةِ. وَشُبِّهَتْ دَاعِيَةُ الْقَتْلِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ بِشَخْصٍ يُعِينُهُ وَيُذَلِّلُ لَهُ الْقَتْلَ الْمُتَعَاصِيَ، فَكَانَ (طَوَّعَتْ) اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً، وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّ نَفْسَ قَابِيلَ سَوَّلَتْ لَهُ قَتْلَ أَخِيهِ بَعْدَ مُمَانَعَةٍ. وَقَدْ سُلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ مَسْلَكَ الْإِطْنَابِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْإِيجَازِ أَنْ يُحْذَفَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ وَيُقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ فَقَتَلَهُ لَكِنْ عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ لِقَصْدِ تَفْظِيعِ حَالَةِ الْقَاتِلِ فِي تَصْوِيرِ خَوَاطِرِهِ الشِّرِّيرَةِ وَقَسَاوَةِ قَلْبِهِ، إِذْ حَدَّثَهُ بِقَتْلِ مَنْ كَانَ شَأْنُهُ الرَّحْمَةَ بِهِ وَالرِّفْقَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِطْنَابًا.