للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: ٦٧] ، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَة: ٦٧] .

وَالْمَقْصُودُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فَأَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِقَامَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَبِالْإِيمَانِ بِالْإِنْجِيلِ إِلَى زَمَنِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَبِإِقَامَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الْمُهَيْمِنِ عَلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ بِشَارَاتِ الْإِنْجِيلِ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ عِيسَى- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-.

وَمَعْنَى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ نَفْيُ أَنْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّدَيُّنِ وَالتَّقْوَى لِأَنَّ خَوْضَ الرَّسُولِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْهُدَى وَالتَّقْوَى، فَوَقَعَ هُنَا حَذْفُ صِفَةِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ عَلَى نَحْوِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: ٧٩] ، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، أَوْ غَيْرِ مَعِيبَةٍ.

وَالشَّيْءُ اسْمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَهُوَ اسْمٌ مُتَوَغِّلٌ فِي التَّنْكِيرِ صَادِقٌ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَيُبَيِّنُهُ السِّيَاقُ أَوِ الْقَرَائِنُ. فَالْمُرَادُ هُنَا شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْكِتَابِ، وَلَمَّا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتُفِيدَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَقَلُّ حَظٍّ مِنَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى مَا دَامُوا لَمْ يَبْلُغُوا الْغَايَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَهِيَ أَنْ يُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِثْلُ هَذَا النَّفْيِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاعْتِدَادِ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ، قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:

وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ

أَيْ لَمْ أُعْطَ شَيْئًا كَافِيًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلَمْ أُمْنَعْ. وَيَقُولُونَ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، مَعَ أَنَّهُ

شَيْءٌ لَا مَحَالَةَ وَمُشَارٌ إِلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. وَمِنْهُ مَا وَقَعَ

فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»

. وَقَدْ شَاكَلَ هَذَا النَّفْيُ عَلَى مَعْنَى الِاعْتِدَادِ النَّفْيَ الْمُتَقَدِّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، أَيْ فَمَا بَلَّغْتَ تَبْلِيغًا مُعْتَدًّا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ.