للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِعْلُ أَصْبَحُوا مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى صَارُوا، وَهُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مُشْعِرٌ بِمَصِيرٍ عَاجِلٍ لَا تَرَيُّثَ فِيهِ لِأَنَّ الصَّبَاحَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الِانْتِشَارِ لِلْأَعْمَالِ.

وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ بَعْضُ الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، سَأَلُوا مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَلَمَّا أُعْطُوا مَا سَأَلُوا لَمْ يُؤْمِنُوا، مِثْلُ ثَمُودَ، سَأَلُوا صَالِحًا آيَةً، فَلَمَّا أَخْرَجَ لَهُمْ نَاقَةً مِنَ الصَّخْرِ عَقَرُوهَا، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مُتَابعَة الْهوى فكلّ مَا يَأْتِيهِمْ مِمَّا لَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ كَذَّبُوا بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النُّور: ٤٨، ٤٩] ، وَكَمَا وَقَعَ لِلْيَهُودِ فِي خَبَرِ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَقَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٧] . فَإِنَّ الْيَهُودَ أَبْغَضُوا جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ دَانْيَالَ بِاقْتِرَابِ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، وَتَعْطِيلِ بَيْتِ الْقُدْسِ، حَسْبَمَا فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِ دَانْيَالَ. وَقَدْ سَأَلَ الْيَهُودُ زَكَرِيَّاءَ وَابْنَهُ يَحْيَى عَنْ عِيسَى، وَكَانَا مُقَدَّسَيْنِ عِنْدَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا شَهِدَا لِعِيسَى بِالنُّبُوءَةِ أَبْغَضَهُمَا الْيَهُودُ وَأَغْرَوْا بِهِمَا زَوْجَةَ هِيرُودَسَ فَحَمَلَتْهُ عَلَى قَتْلِهِمَا كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى وَالْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ مِنْ مُرْقُسَ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا ذَمُّ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي غَمِّ النَّفْسِ وَحَشْرَجَةِ الصَّدْرِ وَسَمَاعِ مَا يُكْرَهُ مِمَّنْ يُحِبُّهُ. وَلَوْلَا أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَازِعٌ لَهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي أَمْثَالِ مَا وَقَعَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ قَبْلِهِمْ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَكُونُ ذَرِيعَةً لِلْكُفْرِ.

فَهَذَا اسْتِقْصَاءُ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَجِيبَةِ الْمَعَانِي الْبَلِيغَةِ الْعِبَرِ الْجَدِيرَةِ بِاسْتِجْلَائِهَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي منّ باستضوائها.

[١٠٣]

[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٠٣]

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ