للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١٠٣)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَاءَ فَارِقًا بَيْنَ مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نَقَائِضِ الْحَنِيفِيَّةِ وَبَيْنَ مَا

نَوَّهَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِيَامًا لَهُمْ، بَيَّنَ هُنَا أَنَّ أُمُورًا مَا جَعَلَهَا اللَّهُ وَلَكِنْ جَعَلَهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَكُونُ كَالْبَيَانِ لِآيَةِ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَة: ١٠٠] ، فَإِنَّ الْبَحِيرَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا هُنَا تُشْبِهُ الْهَدْيَ فِي أَنَّهَا تُحَرَّرُ مَنَافِعُهَا وَذَوَاتُهَا حَيَّةً لِأَصْنَامِهِمْ كَمَا تُهْدَى الْهَدَايَا لِلْكَعْبَةِ مُذَكَّاةً، فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُمْ ذَلِكَ وَيَخْلِطُونَ ذَلِكَ بِالْهَدَايَا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. فَالتَّصَدِّي لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَبَيْنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، كَالتَّصَدِّي لِبَيَانِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَبَيْنَ السَّعْيِ لِلصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٥٨] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَمِمَّا يَزِيدُكَ ثِقَةً بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ اللَّهَ افْتَتَحَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِتَكُونَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ [الْمَائِدَة: ٩٧] . وَلَوْلَا مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْآيِ الْكَثِيرَةِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُولَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ إِلَّا أَنَّ الْفَصْلَ هُنَا كَانَ أَوْقَعَ لِيَكُونَ بِهِ اسْتِقْلَالُ الْكَلَامِ فَيُفِيدُ مَزِيدَ اهْتِمَامٍ بِمَا تَضَمَّنَهُ.

وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، لِأَنَّ أَصْلَ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ إِلَى التَّقْدِيرِ وَالْكَتْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: فَرَضَ عَلَيْهِ جَعَالَةً، وَهُوَ هُنَا كَذَلِك فيؤول إِلَى مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: ٩٧] . فَالْمَقْصُودُ هُنَا نَفْيُ تَشْرِيعِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْحَقَائِقِ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْوَاقِعِ. فَنَفَيُ جَعْلِهَا مُتَعَيَّنٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيَ الْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِهِ وَالْغَضَبِ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ فَعَلَ شَيْئًا: مَا أَمَرْتُكَ بِهَذَا. فَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبَاحَتَهُ وَالتَّخْيِيرَ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ