للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَتَحْدِيدٍ أَوْ ضِدِّهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الْأَعْمَالُ الْمَظْرُوفَةُ فِيهَا. وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ، لِأَنَّهُمَا مُصْدَرَانِ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ:

فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ وَهَذَا الْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْحَاصِلَةَ فِي الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، وَمِنْهَا غَيْرُهُمَا، قَالَ تَعَالَى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الْحَدِيد: ٢٠] . فَالْحَيَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْمُلَائِمُ كَالْأَكْلِ وَاللَّذَّاتِ، وَمِنْهَا الْمُؤْلِمُ كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَحْزَانِ، فَأَمَّا الْمُؤْلِمَاتُ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا هُنَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَرْغَبُ فِيهِ الرَّاغِبُونَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْحَيَاةِ هُنَا مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهَا النَّاسُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْمُلَائِمَاتُ.

وَأَمَّا الْمُلَائِمَاتُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، كالطعام وَالشرَاب والتدفّي فِي الشِّتَاءِ وَالتَّبَرُّدِ فِي الصَّيْفِ وَجَمْعِ الْمَالِ عِنْدَ الْمُولِعِ بِهِ وَقَرْيِ الضَّيْفِ وَنِكَايَةِ الْعَدُوِّ وَبَذْلِ الْخَيْرِ لِلْمُحْتَاجِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ لَمَّا كَانَ مُعْظَمُهَا يَسْتَدْعِي صَرْفَ هِمَّةٍ وَعَمَلٍ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّعَبِ وَهُوَ مُنَافِرٌ. فَكَانَ مُعْظَمُ مَا يُحِبُّ النَّاسُ الْحَيَاةَ لِأَجْلِهِ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَمِنَ اللَّعِبِ الْمُزَاحُ وَمُغَازَلَةُ النِّسَاءِ، وَمِنَ اللَّهْوِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْمَغَانِي وَالْأَسْمَارُ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ وَالصَّيْدُ.

فَأَمَّا أَعْمَالُهُمْ فِي الْقُرُبَاتِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالنَّذْرِ وَالطَّوَافِ بِالْأَصْنَامِ وَالْعَتِيرَةِ وَنَحْوِهَا فَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ لَا اعْتِدَادَ بِهَا بِدُونِ الْإِيمَانِ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِاللَّعِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: ٣٥] ، وَقَالَ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الْأَعْرَاف: ٥١] .

فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقَصْرُ الِادِّعَائِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.

وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُتَّقِينَ فِي