للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبُ. فَالْإِيمَانُ بِمَا سَيَنْزِلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَإِيمَانُهُمْ بِمَا سَيَنْزِلُ مُرَادٌ مِنَ الْكَلَامِ وَلَيْسَ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ الَّذِي هُوَ لِلْمَاضِي فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى تَغْلِيبِ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِما أُنْزِلَ وَالْمُرَادُ مَا أُنْزِلَ وَمَا سَيَنْزِلُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» .

وَعَدَّى الْإِنْزَالَ بِإِلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْوَصْفِ فَالْمُنْزَلُ إِلَيْهِ غَايَةٌ لِلنُّزُولِ وَالْأَكْثَرُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُعَدَّى بِحَرْفِ عَلَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السُّقُوطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [آل عمرَان: ٣] وَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ الشَّيْءَ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُنْزَلِ عَلَيْهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَة: ٥٧] وَاخْتِيَارُ إِحْدَى التَّعْدِيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْكَلَامِ.

ثُمَّ إِنَّ فَائِدَةَ الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الدَّلَالَةُ بِالصِّلَةِ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا آمَنُوا بِمَا ثَبَتَ نُزُولُهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِمْ دُونَ تَخْلِيطٍ بِتَحْرِيفَاتٍ صَدَّتْ قَوْمَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ كَكَوْنِ التَّوْرَاةِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَأَنَّهُ يَجِيءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ عَقِبِ إِسْرَائِيلَ مَنْ يُخَلِّصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَسْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ أَوْ مِنْ فَاسِدِ التَّأْوِيلَاتِ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغُلَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ صَدَّهُمْ غُلُوُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَقَوْلُهُمْ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَوْلُهُ: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عَطْفُ صِفَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ ثُبُوتُ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ أَيِ اعْتِقَادِهِمْ بِحَيَاةٍ ثَانِيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَا الْوَصْفُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِمْ لِأَنَّهُ مِلَاكُ التَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ الَّتِي جُعِلُوا مَوْصُوفِينَ بِهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَا أَجْمَلَهُ الْوَصْفُ بِالْمُتَّقِينَ فَإِنَّ الْيَقِينَ بِدَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْحَذَرَ وَالْفِكْرَةَ فِيمَا يُنْجِي النَّفْسَ مِنَ الْعِقَابِ وَيُنَعِّمُهَا بِالثَّوَابِ وَذَلِكَ الَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ هَذَا الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ مِنْ مَزَايَا أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُوقِنُونَ بِحَيَاةٍ ثَانِيَةٍ فَهُمْ دَهْرِيُّونَ، وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْهُمْ مِنْ

أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْبُطُونَ رَاحِلَةَ الْمَيِّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَتْرُكُونَهَا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ حَتَّى الْمَوْتَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِذَا حَيِيَ يَرْكَبُهَا فَلَا يُحْشَرُ رَاجِلًا