للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُرَجِّحُ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مُدَّةِ إِقَامَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ظَنَّنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ كَانَتْ مَبْدَأَ مُدَاخَلَةِ الْيَهُودِ لِقُرَيْشٍ فِي مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمَكَّةَ حِينَ بَلَغَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ يَجْعَلُونَهُ، وَيُبْدُونَهَا، وَيُخْفُونَ- بِالتَّحْتِيَّةِ- فَتَكُونُ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةً إِلَى مَعْرُوفٍ عِنْد المتكلّم، وهم يَهُودُ الزَّمَانِ الَّذِينَ عُرِفُوا بِذَلِكَ.

وَالْقَرَاطِيسُ جَمْعُ قِرْطَاسٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٧] . وَهُوَ الصَّحِيفَةُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ مِنْ رَقٍّ أَوْ كَاغِدٍ أَوْ خِرْقَةٍ. أَيْ تَجْعَلُونَ الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى أَوْرَاقًا مُتَفَرِّقَةً قَصْدًا لِإِظْهَارِ بَعْضِهَا وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ آخَرَ.

وَقَوْلُهُ: تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً صِفَةٌ لِقَرَاطِيسَ، أَيْ تُبْدُونَ بَعْضَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا، فَفُهِمَ أَنَّ الْمَعْنَى تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ لِغَرَضِ إِبْدَاءِ بَعْضٍ وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ.

وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الذَّمِّ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كُتُبَهُ لِلْهُدَى، وَالْهُدَى بِهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِظْهَارِهَا وَإِعْلَانِهَا، فَمَنْ فَرَّقَهَا لِيُظْهِرَ بَعْضًا وَيُخْفِيَ بَعْضًا فَقَدْ خَالَفَ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهَا. فَأَمَّا لَوْ جَعَلُوهُ قَرَاطِيسَ لِغَيْرِ هَذَا الْمَقْصِدِ لَمَا كَانَ فِعْلُهُمْ مَذْمُومًا، كَمَا كَتَبَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ فِي أَجْزَاءٍ مُنْفَصِلَةٍ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ كِتَابَةُ الْأَلْوَاحِ فِي الْكَتَاتِيبِ لِمَصْلَحَةٍ.

وَفِي «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ سُئِلَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنِ الْقُرْآنِ يُكْتَبُ أَسْدَاسًا وَأَسْبَاعًا فِي الْمَصَاحِفِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً وَعَابَهَا وَقَالَ لَا يُفَرَّقُ الْقُرْآنُ وَقَدْ جَمَعَهُ اللَّهُ وَهَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَهُ وَلَا أرى ذَلِك اهـ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» : الْقُرْآنُ أُنْزِلُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى