للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْكَلَامُ تَوْبِيخٌ لِلْجِنِّ وَإِنْكَارٌ، أَيْ كَانَ أَكْثَرُ الْإِنْسِ طَوْعًا لَكُمْ، وَالْجِنُّ يَشْمَلُ الشَّيَاطِينَ، وَهُمْ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيُطَوِّعُونَهُمْ: بِالْوَسْوَسَةِ، وَالتَّخْيِيلِ، وَالْإِرْهَابِ، وَالْمَسِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى تَوَهَّمَ النَّاسُ مَقْدِرَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِمْ بِالْإِرْضَاءِ وَتَرْكِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحهم وَفِي شؤونهم، وحتّى أَصْبَحَ الْمُسَافِرُ إِذَا نَزَلَ وَادِيًا قَالَ:

«أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي، أَوْ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي، يَعْنِي بِهِ كَبِيرَ الْجِنِّ، أَوْ قَالَ: يَا رَبِّ الْوَادِي إِنِّي أَسْتَجِيرُ بِكَ» يَعْنِي سَيِّدَ الْجِنِّ. وَكَانَ الْعَرَبُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْفَيَافِيَ وَالْأَوْدِيَةَ الْمُتَّسِعَةَ بَيْنَ الْجِبَالِ مَعْمُورَةٌ بِالْجِنِّ، وَيَتَخَيَّلُونَ أَصْوَاتَ الرِّيَاحِ زَجَلَ الْجِنِّ. قَالَ الْأَعْشَى:

وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ ... لِلْجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلُ

وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْإِنْسِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ، وَأَطَاعُوهُمْ، وَأَفْرَطُوا فِي مَرْضَاتِهِمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَبْذِ مُتَابَعَتِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله الْآتِي: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

[الْأَنْعَام: ١٣٠] فَإِنَّهُ تَدَرُّجٌ فِي التَّوْبِيخِ وَقَطْعُ الْمَعْذِرَةِ.

وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَائِهِمْ أَوْلِيَاءُ الْجِنِّ: أَيِ الْمُوَالُونَ لَهُمْ، وَالْمُنْقَطِعُونَ إِلَى التَّعَلُّقِ بِأَحْوَالِهِمْ.

وَأَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَافَوُا الْمَحْشَرَ عَلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْكُفَّارُ وَالْعُصَاةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَاصِيَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطَاعَ الشَّيَاطِينَ فَلَيْسَ وَلِيًّا لَهَا اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: ٢٥٧] وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخر الْآيَة: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

[الْأَنْعَام: ١٣٠] وَقَالَ: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.

ومِنَ الْإِنْسِ بَيَانٌ لِلْأَوْلِيَاءِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى حِكَايَةِ جَوَابِ الْإِنْسِ لِأَنَّ النَّاسَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.