للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ غَيْرَ وَاقِعٍ بِجِدٍّ وَلَا بِسُخْرِيَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَا يَتَرَقَّبُونَ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ يَأْتِيهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا أَتَاهُمْ، فَلَا انْتِظَارَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتَبْطَنُوا الْعِنَادَ، فَإِنْ فُرِضَ لَهُمُ انْتِظَارٌ فَإِنَّمَا هُوَ انْتِظَارُ مَا سَيَحُلُّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَوْ عَذَابِ الدُّنْيَا أَوْ مَا هُوَ بَرْزَخٌ بَينهمَا، فَيكون الاستنثاء تَأْكِيدًا لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ

شَيْئًا وَلَكِنْ سَيَجِيئُهُمْ مَا لَا يَنْتَظِرُونَهُ، وَهُوَ إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ، إِلَى آخِرِهِ، فَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ.

وَالْقَصْرُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ إِضَافِيٌّ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يُنْتَظَرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْخَبَرِيُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ آيَةً، فَإِنَّهُمْ جَازِمُونَ بتكذيب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الْآيَاتِ إِفْحَامًا فِي ظَنِّهِمْ. وَلَا يَنْتَظِرُونَ حِسَابًا لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.

وَالْإِتْيَانُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، مِثْلَ الَّذِينَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: ١٢] . وَأَمَّا الْمُسْنَدُ إِلَى الرَّبِّ فَهُوَ مَجَازٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ: إِتْيَانُ عَذَابِهِ الْعَظِيم، فَهُوَ لعظم هَوْلِهِ جَعَلَ إِتْيَانَهُ مُسْنَدًا إِلَى الْآمِرِ بِهِ أَمْرًا جَازِمًا لِيُعْرَفَ مِقْدَارُ عَظَمَتِهِ، بِحَسَبِ عَظِيمِ قُدْرَةِ فَاعِلِهِ وَآمِرِهِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ مِنْ بَابِ: بَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ، وَهَذَا مَجَازٌ وَارِدٌ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: ٢] وَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: ٣٩] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ بِحِسَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: ٢٢] ، أَيْ لَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ.