للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْقَائِلُ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْضُ مَنْ وَقَفَ عَلَى حَالِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ اطِّلَاعٌ عَلَى شُؤُونِهِمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَةٍ، فَيُخْلِصُونَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ وَالْمَوْعِظَةَ رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ وَيَسْتُرُونَ عَلَيْهِمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَعِلْمًا بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِي عَنْ زَلَّاتِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَفِي جَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى حَرْفِ إِنَّمَا كَمَا سَيَأْتِي وَيَدُلُّ لِذَلِكَ عِنْدِي بِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَة: ٨] وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لَهُمُ اللَّهُ- وَالرَّسُولُ- إِذْ لَوْ نَزَلَ الْوَحْيُ وَبَلَّغَ إِلَى مُعَيَّنِينَ مِنْهُمْ لَعُلِمَ كُفْرُهُمْ وَلَوْ نَزَلَ مُجْمَلًا كَمَا تَنْزِلُ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْتَقِمْ جَوَابُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ.

وَقَدْ عَنَّ لِي فِي بَيَانِ إِيقَاعِهِمُ الْفَسَادَ أَنَّهُ مَرَاتِبٌ:

أَوَّلُهَا: إِفْسَادُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى تِلْكَ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِيمَا مَضَى وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَذَامِّ وَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَفَاسِدِ.

الثَّانِيَةُ: إِفْسَادُهُمُ النَّاسَ بِبَثِّ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، وَإِفْسَادُهُمْ أَبْنَاءَهُمْ وَعِيَالَهُمْ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي مَسَاوِيهِمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: ٢٧] .

الثَّالِث: إِفْسَادُهُمْ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا فَسَادُ الْمُجْتَمَعِ، كَإِلْقَاءِ النَّمِيمَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَتَسْعِيرِ الْفِتَنِ وَتَأْلِيبِ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِحْدَاثِ الْعَقَبَاتِ فِي طَرِيقِ الْمُصْلِحِينَ.

وَالْإِفْسَادُ فِعْلُ مَا بِهِ الْفَسَادُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ أَيْ جَعْلِ الْأَشْيَاءِ فَاسِدَةً فِي الْأَرْضِ. وَالْفَسَادُ أَصْلُهُ اسْتِحَالَةُ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ النَّافِعِ إِلَى مَضَرَّةٍ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى وُجُودِ الشَّيْءِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَضَرَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ مِنْ قَبْلُ يُقَالُ فَسَدَ الشَّيْءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَالِحًا وَيُقَالُ فَاسِدٌ إِذَا وُجِدَ فَاسِدًا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ أَفْسَدَ إِذَا عَمَدَ إِلَى شَيْءٍ صَالِحٍ فَأَزَالَ صَلَاحَهُ، وَيُقَالُ أَفْسَدَ إِذَا أَوْجَدَ فَسَادًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَسَادَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ مِنَ الْوَضْعِ الْمُشْتَرَكِ، فَلَيْسَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا كَمَا هُنَا مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ مِنْهُ تَصْيِيرُ

الْأَشْيَاءِ الصَّالِحَةِ مُضِرَّةً كَالْغِشِّ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَمِنْهُ إِزَالَةُ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ كَالْحَرْقِ وَالْقَتْلِ لِلْبَرَاءِ، وَمِنْهُ إِفْسَادُ الْأَنْظِمَةِ كَالْفِتَنِ وَالْجَوْرِ، وَمِنْهُ إِفْسَادُ الْمَسَاعِي كَتَكْثِيرِ الْجَهْلِ وَتَعْلِيمِ الدَّعَارَةِ وَتَحْسِينِ الْكُفْرِ وَمُنَاوَأَةِ