للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي يَبْخَسُ شَيْءَ الْبَائِعِ لِيُهَيِّئَهُ لِقَبُولِ الْغَبْنِ فِي ثَمَنِ شَيْئِهِ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حِيلَةٌ وَخِدَاعٌ لِتَحْصِيلِ رِبْحٍ مِنَ الْمَالِ.

وَالْكَيْلُ مَصْدَرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُكَالُ بِهِ، وَهُوَ الْمِكْيَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يُوسُف: ٦٥] وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: لِمُقَابَلَتِهِ بِالْمِيزَانِ، وَلِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلا

تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ

[هود: ٨٤] وَمَعْنَى. إِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ أَنْ تَكُونَ آلَةُ الْكَيْلِ وَآلَةُ الْوَزْنِ بِمِقْدَارِ مَا يُقَدَّرُ بِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّرَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ التَّحَيُّلَيْنِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَذْكُورَيْنِ: لِأَنَّهُمَا كَانَا شَائِعَيْنِ عِنْدَ مَدْيَنَ، وَلِأَنَّ التَّحَيُّلَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْمَالِيَّةِ تَنْحَصِرُ فِيهِمَا إِذْ كَانَ التَّعَامُلُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَوَادِي مُنْحَصِرًا فِي الْمُبَادَلَاتِ بِأَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ:

عَرْضًا وَطَلَبًا.

وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أَفَادَ مَعْنًى غَيْرَ الَّذِي أَفَادَهُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّهْيُ جَارِيًا مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ، أَوِ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِهِ، كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.

وَمَا جَاءَ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ رَوَاجِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ تَعْتَمِدُ الثِّقَةَ الْمُتَبَادَلَةَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِشُيُوعِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ نَشِطَ النَّاسُ لِلتَّعَامُلِ فَالْمُنْتِجُ يَزْدَادُ إِنْتَاجًا وَعَرْضًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَالطَّالِبُ مِنْ تَاجِرٍ أَوْ مُسْتَهْلِكٍ يُقْبِلُ عَلَى الْأَسْوَاقِ آمِنًا لَا يَخْشَى غَبْنًا وَلَا خَدِيعَةً وَلَا خِلَابَةً، فَتَتَوَفَّرُ السِّلَعُ فِي الْأُمَّةِ، وَتَسْتَغْنِي عَنِ اجْتِلَابِ أَقْوَاتِهَا وَحَاجِيَّاتِهَا وَتَحْسِينِيَّاتِهَا، فَيَقُومُ نَمَاءُ الْمَدِينَةِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، وَيَعِيشُ النَّاسُ فِي رَخَاءٍ وَتَحَابُبٍ وَتَآخٍ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ يَخْتَلُّ حَالُ الْأُمَّةِ بِمِقْدَارِ تَفَشِّي ضِدِّ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها هَذَا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ دَعْوَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَا يُفْضِي إِلَى إِفْسَادِ مَا هُوَ عَلَى