للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَهَذَا التَّخَيُّلُ قَدْ يَحْصُلُ مِنِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ وَاخْتِلَافِ الظِّلَالِ، بِاعْتِبَارِ مَوَاقِعِ الرَّائِينَ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَوَاقِعِ وَانْخِفَاضِهَا، وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الرُّؤْيَةِ عَلَى حَسَبِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَمَوْقِعِ الرَّائِينَ مِنْ مُوَاجَهَتِهَا أَوِ اسْتِدْبَارِهَا، وَبَعْضُ ذَلِكَ يَحْصُلُ عِنْدَ حُدُوثِ الْآلِ

وَالسَّرَابِ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ ضَبَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلْقَاءُ اللَّهِ الْخَيَالَ فِي نُفُوسِ الْفَرِيقَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ.

وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِذِ الْتَقَيْتُمْ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ العجيبة لهاته الإراءة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا [الْأَنْفَال:

٤٣] .

وإِذِ الْتَقَيْتُمْ ظَرْفٌ لِ يُرِيكُمُوهُمْ وَقَوْلُهُ: فِي أَعْيُنِكُمْ تَقْيِيدٌ لِلْإِرَادَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ الْمَرْئِيُّ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَقْيِيدِ الْإِرَاءَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَقْصِدٍ لَكَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِرَاءَةَ بَصَرِيَّةٌ لَا حُلْمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْي الْعين [آل عمرَان:

١٣] .

وَالِالْتِقَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ اللِّقَاءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَاللِّقَاءُ وَالِالْتِقَاءُ فِي الْأَصْلِ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ، مِنْ صَدِيقٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَفِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْحُضُورِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً [الْأَنْفَال: ١٥] الْآيَةَ.

وَيُقَلِّلُكُمْ يَجْعَلُكُمْ قَلِيلًا، لِأَنَّ مَادَّةَ التَّفْعِيلِ تَدُلُّ عَلَى الْجَعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْجَعْلُ مُتَعَلِّقًا بِذَاتِ الْمَفْعُولِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ»

، قَالَ الرَّاوِي: يُقَلِّلُهَا أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَاءَةِ كَمَا هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى زِيَادَةَ قَوْلِهِ: فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّقْلِيلَ لَيْسَ بِالنَّقْصِ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَقَوْلُهُ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: ٤٢] الْمُتَقَدِّمِ أُعِيدَ هُنَا لِأَنَّهُ عِلَّةُ إِرَاءَةِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْفَرِيقَ الْآخَرِ قَلِيلًا، وَأَمَّا السَّابِقُ فَهُوَ عِلَّةٌ لِتَلَاقِي الْفَرِيقَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.