للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنْ كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ قَوْلٌ فِي نَفْسِهِ، وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ اسْتَحْضَرَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ، فَقَالَ قَوْلَهُ هَذَا، وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً يَعْنِي رَأَى نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَخَافَ أَنْ يَضُرُّوهُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ أَيْ أَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ قَوْلِ سُرَاقَةَ فَهُوَ إِعْلَانٌ لَهُمْ بَرَدِّ جِوَارِهِ إِيَّاهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ خَائِنًا لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا نَقْضَ جِوَارٍ أَعْلَنُوا ذَلِكَ لِمَنْ أَجَارُوهُ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ حِينَ أَجَارَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ثُمَّ رَدَّ جِوَارَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الْأَنْفَال: ٥٨] فَالْمَعْنَى: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ جِوَارِكُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: «إِلَى أَيْنَ أَتَخْذُلُنَا» فَيَكُونُ قَدِ اقْتَصَرَ عَلَى

تَأْمِينِهِمْ مِنْ غَدْرِ قَوْمِهِ بَنِي كِنَانَةَ. وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً وَمَفْعُولُهَا الثَّانِي مَحْذُوفًا اقْتِصَارًا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِسْنَادُ إِلَى الشَّيْطَانِ حَقِيقَةً فَالْمُرَادُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَوَقُّعُ أَنْ يُصِيبَهُ اللَّهُ بِضُرٍّ، مِنْ نَحْوِ الرَّجْمِ بِالشُّهُبِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ قَوْلُ سُرَاقَةَ فَلَعَلَّ سُرَاقَةَ قَالَ قَوْلًا فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَاهَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَعَلَّهُ تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ فِيمَا وَعَدَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِعَانَةِ ضَرْبًا مِنْ خِيَانَةِ الْعَهْدِ فَخَافَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْخِيَانَةِ.

وَ «التَّزْيِينُ» إِظْهَارُ الشَّيْءِ زَيْنًا، أَيْ حَسَنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨] ، وَفِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٢] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَرَاهُمْ حَسَنًا مَا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى إِنْقَاذِ الْعِيرِ، ثُمَّ مِنْ إِزْمَاعِ السَّيْرِ إِلَى بَدْرٍ.

وتَراءَتِ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ رَأَتْ كِلْتَا الْفِئَتَيْنِ الْأُخْرَى.

ونَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَعَنْ مُؤَرِّجٍ السَّدُوسِيِّ: أَنَّ نَكَصَ رَجَعَ بِلُغَةِ سُلَيْمٍ، وَمَصْدَرُهُ النُّكُوصُ وَهُوَ مِنْ بَابِ رَجَعَ.