للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدِّينِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ هُوَ النَّفْعَ الدُّنْيَوِيَّ لَكَانَ حِفْظُ أَنْفُسِ النَّاسِ مُقَدَّمًا عَلَى إسعافهم بِالْمَالِ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ فِي الْجِهَادِ. فَالْمَعْنَى: يُوشِكُ أَنْ تَكُونَ حَالُكُمْ كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ إِلَّا عَرَضَ الدُّنْيَا، تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي إِيثَارِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ.

وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ عَطْفًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَثَرًا فِي أَنَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ حَظَّ الْآخِرَةِ هُوَ الْحَظُّ الْحَقُّ، وَلِذَلِكَ يُرِيدُهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

فَوَصْفُ الْعَزِيزِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْنَاء على الِاحْتِيَاجِ، وَعَلَى الرِّفْعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مَحَبَّةُ الْأُمُورِ النَّفِيسَةِ، وَهَذَا يُومِئُ إِلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّاءَ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: ٨] فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ أَنْ يَرْبَأُوا بِنُفُوسِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِسَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَأَنْ يَجْنَحُوا إِلَى مَعَالِيهَا.

وَوَصْفُ الْحَكِيمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْعَالِمُ بِالْمَنَافِعِ الْحَقِّ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.

وَجُمْلَةُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى أَمْرٌ مَرْهُوبٌ تُخْشَى عَوَاقِبُهُ، فَيَسْتَثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ عَمَّا يُتَرَقَّبُ مِنْ ذَلِكَ، فَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الْآيَةَ.

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ مِنَ الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ التَّعْيِينُ وَالتَّقْدِيرُ، وَقَدْ نُكِّرَ

الْكِتَابُ تَنْكِيرَ نَوْعِيَّةٍ وَإِبْهَامٍ، أَيْ: لَوْلَا وُجُودُ سُنَّةِ تَشْرِيعٍ سَبَقَ عَنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ الْكِتَابُ هُوَ عُذْرُ الْمُسْتَشَارِ وَعُذْرُ الْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِهِ إِذَا أَخْطَأَ، فَقَدِ اسْتَشَارَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَأَوْهَا وَأَخَذَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ مُخَالَفَتُهُمْ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ يُوجِبُ أَنْ يَمَسَّهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَأَنَّهُ نَصَبَ عَلَى حُكْمِهِ أَمَارَةً هِيَ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُؤْجَرُ.

وَ «فِي» لِلتَّعْلِيلِ، وَالْعَذَاب يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ.