للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَظْهَرُ لِي أنّ التَّفْرِيع ناشىء عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: فَاكْتَفُوا بِمَا تَغْنَمُونَهُ وَلَا تُفَادُوا الْأَسْرَى إِلَى أَنْ تُثْخِنُوا فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْغَنِيمَةِ هُنَا إِذْ لَا يَنْبَغِي صَرْفُهُ عَنْ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ.

وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الْأَنْفَال: ٦٨] امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُمْ بَأْسَ الْعَدُوِّ، فَرَّعَ عَلَى الِامْتِنَانِ الْإِذْنَ لَهُمْ بِأَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَالِ الْفِدَاءِ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَيَتَوَسَّعُوا بِهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ، دُونَ نَكَدٍ وَلَا غُصَّةٍ، فَإِنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِهِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ ضُرِّ الْعَدُوِّ بِفَضْلِ اللَّهِ. فَتِلْكَ نِعْمَةٌ لَمْ يَشُبْهَا أَذًى.

وَعَبَّرَ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْهَنِيءِ بِالْأَكْلِ: لِأَنَّ الْأَكْلَ أَقْوَى كَيْفِيَّاتِ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ، فَإِنَّ الْآكِلَ يَنْعَمُ بلذاذة الْمَأْكُول وبدفع أَلَمَ الْجُوعِ عَنْ نَفْسِهِ- وَدَفْعُ الْأَلَمِ لَذَاذَةٌ- وَيُكْسِبُهُ الْأَكْلُ قُوَّةً وَصِحَّةً- وَالصِّحَّةُ مَعَ الْقُوَّةِ لَذَاذَةٌ أَيْضًا-.

وَالْأَمر فِي فَكُلُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمِنَّةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ هُنَا: لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمَغَانِمِ مقرّرة من قبله يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِيَكُونَ قَوْلُهُ: حَلالًا حَالًا مُؤَسِّسَةً لَا مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ.

وغَنِمْتُمْ بِمَعْنَى فَادَيْتُمْ لِأَنَّ الْفِدَاءَ عِوَضٌ عَنِ الْأَسْرَى وَالْأَسْرَى مِنَ الْمَغَانِمِ.

وَالطَّيِّبُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، أَيْ حَلَالًا مِنْ خَيْرِ الْحَلَالِ.

وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى: لِأَنَّ التَّقْوَى شُكْرُ اللَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ مِنْ دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ.

وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى شُكْرٌ عَلَى النِّعْمَةِ، فَحَرْفُ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَهُوَ مُغْنٍ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ:

إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.