للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أَيْ مِثْلُكُمْ فِي النَّصْرِ وَالْمُوَالَاةِ، قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ «يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ، أَيِ اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ فِي أَنَّ الْمُهَاجِرَ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ وَالْعَكْسِ، وَهُوَ قَوْلُ فِرْقَةٍ. وَقَالُوا: إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ.

عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فَلَا يَقْتَضِي اتِّحَادًا بَيْنَ الْمَعْطُوفَةِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِثْرِ التَّقَاسِيمِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ لَهَا حَظًّا فِي إِتْمَامِ التَّقْسِيمِ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِي

الْمَصَاحِفِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً.

فَيَظْهَرُ أَنَّ التَّقَاسِيمَ السَّابِقَةَ لَمَّا أَثْبَتَتْ وَلَايَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَفَتْ وَلَايَةً مِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَمِنْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا حَتَّى يُهَاجِرُوا، ثُمَّ عَادَتْ عَلَى الَّذِينَ يُهَاجِرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ تَقَاعُسِهِمْ عَنِ الْهِجْرَةِ بِالْبَقَاءِ فِي دَارِ الْكُفْرِ مُدَّةً، فَبَيَّنَتْ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ وَهَاجَرُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ فِي وَلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَشْغَلُ السَّامِعِينَ عَنْ وَلَايَةِ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُذَكِّرُ بِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَرْحَامِ قَائِمَةٌ وَأَنَّهَا مُرَجِّحَةٌ لِغَيْرِهَا مِنَ الْوَلَايَةِ فَمَوْقِعُهَا كَمَوْقِعِ الشُّرُوطِ، وَشَأْنُ الصِّفَاتِ وَالْغَايَاتِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْجُمَلِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَاتُ قَبْلَهَا مِنَ الْوَلَايَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَلْ مُقَيِّدَةً الْإِطْلَاقَ الَّذِي فِيهَا.

وَظَاهِرُ لَفْظِ الْأَرْحامِ جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مَقَرُّ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبْقَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي اللُّغَةِ، فَجَعَلَ الْمُرَادَ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ ذَوِي الْقَرَابَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأُمُومَةِ، وَهُوَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْحَامِ الْعَصَابَاتِ دُونَ الْمَوْلُودِينَ بِالرَّحِمِ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ لَفْظَ الرَّحِمِ يُرَادُ بِهِ الْعَصَابَةُ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ فِي الدُّعَاءِ «وَصَلَتْكَ رَحِمٌ» ، وَكَقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ:

ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُمَزَّقُ