للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَانْسِلَاخُهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمُتَتَابِعَةِ مِنْهَا، وَقَدْ بَقِيَتْ حُرْمَتُهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبِيلَةٌ، لِمَصْلَحَةِ الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمَّا آمَنَ جَمِيعُ الْعَرَبِ بَطَلَ حُكْمُ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَارِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَغْنَتْ عَنْهَا.

وَالْأَمْرُ فِي فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لِلْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ فقد أذن لكل فِي قَتْلِهِمْ، وَفِي أَخْذِهِمْ، وَفِي حِصَارِهِمْ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْ صُوَرِ الْوُجُوبِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ

فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ

[التَّوْبَة: ١٢] وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْعَهْدِ قَدْ زَالَتْ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ شُرِعُ الْجِهَادُ وَالْإِذْنُ فِيهِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ. وَقَدْ عَمَّتِ الْآيَةُ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ وَعَمَّتِ الْبِقَاعَ إِلَّا مَا خَصَّصَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَالْأَخْذُ: الْأَسْرُ.

وَالْحَصْرُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْقُعُودُ مَجَازٌ فِي الثَّبَاتِ فِي الْمَكَانِ، وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ، لِأَنَّ الْقُعُودَ ثُبُوتٌ شَدِيدٌ وَطَوِيلٌ.

فَمَعْنَى الْقُعُودِ فِي الْآيَةِ الْمُرَابَطَةُ فِي مَظَانِّ تَطَرُّقِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِينَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَفِي مَظَانِّ وُجُودِ جَيْشِ الْعَدُوِّ وَعُدَّتِهِ.

وَالْمَرْصَدُ مَكَانُ الرَّصْدِ. وَالرَّصْدُ: الْمُرَاقَبَةُ وَتَتَبُّعُ النَّظَرِ.

وكُلَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَعْمِيمِ الْمَرَاصِدِ الْمَظْنُونِ مُرُورُهُمْ بِهَا، تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِضَاعَتِهِمُ الْحِرَاسَةَ فِي الْمَرَاصِدِ فَيَأْتِيهِمُ الْعَدُوُّ مِنْهَا، أَوْ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ مَمَارِّ الْعَدُوِّ فَيَنْطَلِقُ الْأَعْدَاءُ آمِنِينَ فَيَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتَسَامَعُ جَمَاعَاتُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا بِذَوِي بَأْسٍ وَلَا يَقَظَةٍ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى كُلَّ هُنَا إِلَى مَعْنَى الْكَثْرَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْمَرَاصِدِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ