للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَذَلِكَ جَزَاءُ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ. وَهَذَا يَقْتَضِي إِلَى أَنَّ ثَعْلَبَةَ أَوْ مُعَتِّبًا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَنَّ حِرْصَهُ عَلَى دَفْعِ صَدَقَتِهِ رِيَاءٌ وَتَقِيَّةٌ وَكَيْفَ وَقَدْ عُدَّ كِلَاهُمَا فِي الصَّحَابَةِ وَأَوَّلُهُمَا فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ: هُمَا آخَرَانِ غَيْرُهُمَا وَافَقَا فِي الِاسْمِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ النِّفَاقُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ مَوْجُودٌ فِي عصر النبوءة كَقَوْلِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «نَافَقَ حَنْظَلَةُ» . وَذَكَرَ ارْتِكَابَهُ فِي خَاصَّتِهِ مَا ظَنَّهُ مَعْصِيَةً وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ

بَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَبَقُوا يَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ خِلَافَ حَالِ أَصْحَابِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقد يومىء إِلَى هَذَا تَنْكِيرُ نِفاقاً الْمُفِيدُ أَنَّهُ نِفَاقٌ جَدِيدٌ وَإِلَّا فَقَدَ ذُكِرُوا مُنَافِقِينَ فَكَيْفَ يَكُونُ النِّفَاقُ حَاصِلًا لَهُمْ عَقِبَ فِعْلِهِمْ هَذَا.

وَاللِّقَاءُ مُصَادَفَةُ الشَّيْءِ شَيْئًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. فَمَعْنَى إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ لِأَنَّهُ يَوْمُ لِقَاءِ اللَّهِ لِلْحِسَابِ، أَوْ إِلَى يَوْمِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لِقَاءُ اللَّهِ كَمَا

فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ»

، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ مَحَبَّةٌ تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ اللِّقَاءَ يَقْتَضِي الرُّؤْيَةَ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ من سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٤٤] فَنَقَضَ عَلَيْهِم الجبّائي بقول: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ. وَقَدْ تَصَدَّى الْفَخْرُ لِإِبْطَالِ النَّقْضِ بِمَا يُصَيِّرُ الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفًا، وَالْحَقُّ أَنَّ اللِّقَاءَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرُّؤْيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي «نَفْحِ الطِّيبِ» فِي تَرْجَمَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ قِصَّةً فِي الِاسْتِدْلَالِ بِآيَةِ الْأَحْزَابِ عَلَى بَعْضِ مُعْتَزِلَةِ الْحَنَابِلَةِ وَنَقَضَ الْحَنْبَلِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمْ وَعْدَ رَبِّهِمْ وَكَذِبِهِمْ.

وَعَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمْ بِصِيغَةِ كانُوا يَكْذِبُونَ لِدَلَالَةِ كَانَ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ كَائِنٌ فِيهِمْ وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَدَلَالَةُ الْمُضَارِعِ عَلَى تَكَرُّرِهِ وَتَجَدُّدِهِ.

وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ مِنْ إِحْدَاثِ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْأَخْلَاقَ الصَّالِحَةَ وَيَزْدَادُ الْفَسَادُ تَمَكُّنًّا مِنَ النَّفْسِ بِطَبِيعَةِ التَّوَلُّدِ الَّذِي هُوَ ناموس الْوُجُود.