للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الذِّكْرِ مَعَ الْأَعْرَابِ. فَلَمَّا تَقَضَّى الْكَلَامُ عَلَى أُولَئِكَ تَخَلَّصَ إِلَى بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الْأَعْرَابِ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى اتِّصَالِ الْغَرَضَيْنِ وَقَعَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَفْظُ (الْأَعْرَابِ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ لِأَحْوَالِ الْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الِاحْتِكَاكِ بِهِمْ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهُمْ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ أَحْوَالُهُمْ وَيَظُنُّونَ بِجَمِيعِهِمْ خَيْرًا.

وَ (أَشَدُّ) وَ (أَجْدَرُ) اسْمَا تَفْضِيلٍ وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى مُفَضَّلٍ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا فَيَكُونُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْحَضَرِ، أَيْ كُفَّارَ وَمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.

وَازْدِيَادُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِكُفَّارِ وَمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَمُنَافِقُوهُمْ أَشَدُّ نِفَاقًا مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا الِازْدِيَادُ رَاجِعٌ إِلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفَيْنِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، أَيْ كُفْرُهُمْ أَمْكَنُ فِي النُّفُوسِ مِنْ كُفْرِ كُفَّارِ الْمَدِينَةِ، وَنِفَاقُهُمْ أَمْكَنُ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَذَلِكَ، أَيْ أَمْكَنُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ مِنْهُ وَالْبُعْدِ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَظُهُورِ بَوَادِرِ الشَّرِّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ غِلَظَ الْقُلُوبِ وَجَلَافَةَ الطَّبْعِ تَزِيدُ النُّفُوسَ السَّيِّئَةَ وَحْشَةً وَنُفُورًا. أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيَّ، وَكَانَ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ،

لَمَّا رَأَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ صَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِنْ ذَهَبٍ قَسَمَهُ قَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ مُوَاجِهًا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اعْدِلْ» فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْحَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ»

. فَإِنَّ الْأَعْرَابَ لِنَشْأَتِهِمْ فِي الْبَادِيَةِ كَانُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَكَانَتْ أَذْهَانُهُمْ أَبْعَدَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَأَمْلَأَ بِالْأَوْهَامِ، وَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ

النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ وَعَنْ تَلَقِّي الْهُدَى صَبَاحَ مَسَاءَ أَجْهَلُ بِأُمُورِ الدِّيَانَةِ وَمَا بِهِ تَهْذِيبُ النُّفُوسِ، وَهُمْ لِتَوَارُثِهِمْ أَخْلَاقَ أَسْلَافِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ التَّطَوُّرَاتِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ سُمُوًّا فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِتْقَانًا فِي وَضْعِ الْأَشْيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَحِكْمَةً تَقْلِيدِيَّةً تَتَدَرَّجُ بِالْأَزْمَانِ، يَكُونُونَ أَقْرَبَ سِيرَةً