للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنَ الْمُحْسِنِينَ. فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَلْقَى كُلُّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَالَمُ صَالِحًا لِإِظْهَارِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وُضِعُ نِظَامُهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، قَابِلًا لِوُقُوعِ مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ وَلِصَرْفِ الْخَيْرَاتِ عَنِ الصَّالِحِينَ وَانْهِيَالِهَا عَلَى الْمُفْسِدِينَ وَالْعَكْسُ لِأَسْبَابٍ وَآثَارٍ هِيَ أَوْفَقُ بِالْحَيَاةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ قَاضِيَةً بِوُجُودِ عَالَمٍ آخَرَ مُتَمَحِّضٌ لِلْكَوْنِ وَالْبَقَاءِ وَمَوْضُوعًا فِيهِ كُلُّ صِنْفٍ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ لَا يَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ إِذْ لَا قِبَلَ فِيهِ لِتَصَرُّفَاتٍ وَتَسَبُّبَاتٍ تُخَالِفُ الْحَقَّ وَالِاسْتِحْقَاقَ. وَقُدِّمَ جَزَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِشَرَفِهِ وَلِيَاقَتِهِ بِذَلِكَ الْعَالَمِ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ سَلَكُوا فِي عَالَمِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِتَغْلِيبِ الْفَسَادِ عَلَى الصَّلَاحِ.

وَالْبَاءُ فِي بِالْقِسْطِ صَالِحَةٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ الْجَزَاءِ وَمَعْنَى الْعِوَضِ.

وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي صِفَةٍ وَالْجَزَاءُ بِمَا يُسَاوِي الْمُجْزَى عَلَيْهِ.

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ [١٨] . فَتُفِيدُ الْبَاءُ أَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ بِمَا يُعَادِلُ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ فَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ صَلَاحًا هُنَالِكَ وَهُوَ غَايَةُ النَّعِيمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ

مُكَافَأَةٌ عَلَى قِسْطِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ فِي عَدْلِهِمْ فِيهَا بِأَنْ عَمِلُوا مَا يُسَاوِي الصَّلَاحَ الْمَقْصُودَ مِنْ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ.

وَالْإِجْمَالُ هُنَا بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْبَاءِ مُفِيدٌ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ جَزَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لِصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ.

وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْجَزَاءَ كُلَّهُ عَدْلٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا زَائِدًا عَلَى الْعَدْلِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَأْنِيسُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِكْرَامُهُمْ بِأَنَّ جَزَاءَهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ بِمَا عَمِلُوا، كَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٣٢] .

وَمِنْ أَعْظَمِ الْكَرَمِ أَنْ يُوهِمَ الْكَرِيمُ أَنَّ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الْمُكَرَمِ هُوَ حَقُّهُ وَأَنْ لَا فَضْلَ لَهُ فِيهِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ، فَفِيهِ تَفَضُّلٌ بِضَرْبٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لِأَنَّهُمْ لَوْ جُوِّزُوا عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِمْ لَكَانَ عَذَابُهُمْ أَشَدَّ، وَلِأَجْلِ هَذَا خُولِفَ