للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ فِي بَدِيهَةِ السَّمَاعِ قَبْلَ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَيَعْلَمُوا كُنْهَ أَمْرِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَدَبَّرُوهُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا التَّكْذِيبِ عَنْ مُكَابَرَةٍ وَعَدَاوَةٍ لَا عَنِ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ مَكْذُوبًا. ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ مُتَفَاوِتٌ: فَمِنْهُ عَدَمٌ بَحْتٌ وَهُوَ حَالُ الدَّهْمَاءِ، وَمِنْهُ عَدَمٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِضَرْبٍ مِنَ الشُّبْهَةِ وَالتَّرَدُّدِ أَوْ يَكُونُ مَعَ رُجْحَانِ صِدْقِهِ وَلَكِنْ لَا يُحِيطُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ التَّكْذِيبُ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٨٤] قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

وَجُمْلَةُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ كَذَّبُوا بِمَا لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.

وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِهِمْ بِقِلَّةِ الْأَنَاةِ وَالتَّثَبُّتِ، أَيْ لَوِ انْتَظَرُوا حَتَّى يَأْتِيَهُمْ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ، أَيْ مَا يَحْتَاجُ مِنْهُ إِلَى التَّأْوِيلِ بَلْ هُمْ صَمَّمُوا عَلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْوِيلِ.

وَالتَّأْوِيلُ: مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ إِذَا رَجَعَ إِلَى الشَّيْءِ. وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى تَفْسِيرِ اللَّفْظِ الَّذِي خَفِيَ مَعْنَاهُ تَفْسِيرًا يظْهر الْمَعْنى، فيؤول وَاضِحًا بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمرَان: ٧] الْآيَةَ. وَهُوَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى التَّفْسِيرِ. وَقَدْ مَرَّ فِي

سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَيُطْلَقُ التَّأْوِيلُ عَلَى اتِّضَاحِ مَا خَفِيَ مِنْ مَعْنَى لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [يُوسُف: ١٠٠] وَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: ٥٣] أَيْ ظُهُورَ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ.

وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَعَلَّ كِلَيْهِمَا مُرَادٌ، أَيْ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُ مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوهُ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ لِعَدَمِ اعْتِيَادِهِمْ بِمَعْرِفَةِ أَمْثَالِهَا، مِثْلَ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَوُقُوعِ الْبَعْثِ، وَتَفْضِيلِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صَنَادِيدِ الْكَافِرِينَ، وَتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهُمْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ الْأُمُورَ بِمَا أَلِفُوهُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَكَانُوا يَقِيسُونَ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ فَكَذَّبُوا بِذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ تَأْوِيلُهُ. وَلَوْ آمَنُوا وَلَازَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِمُوهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ. وَأَيْضًا لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُ مَا حَسِبُوا عَدَمَ التَّعْجِيلِ بِهِ دَلِيلًا عَلَى الْكَذِبِ كَمَا قَالُوا: إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] ظَنًّا أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغْضَبُوا اللَّهَ عَجَّلَ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فَظَنُّوا تَأَخُّرَ حُصُولِ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ حَقًّا مِنْ عِنْدِهِ. وَكَذَلِكَ كَانُوا يَسْأَلُونَ آيَاتٍ مِنَ