للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاعْلَمْ أَنَّ النُّحَاةَ يَذْكُرُونَ اسْتِعْمَالَ (مَاذَا) بِمَعْنَى (مَا الَّذِي) وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ بَعْضَ مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهِ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالًا مُطَّرِدًا. وَقَدْ حَقَّقَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ» إِذْ زَادَ قَيْدًا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَقَالَ:

وَمِثْلُ مَا، ذَا بَعْدَ مَا اسْتِفْهَامِ ... أَوْ مَنْ إِذَا لَمْ تُلْغَ فِي الْكَلَامِ

يُرِيدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَزِيدًا. وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْإِلْغَاءِ فِرَارًا مِنْ إِيرَادِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعَ لَهُ وَلَا هُوَ بِمُفِيدٍ تَأْسِيسَ مَعْنًى فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ لِلتَّقْوِيَةِ وَالتَّأْكِيدِ الْحَاصِلِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكَلَامُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى اسْتِعْمَالَاتِهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي فصل عقده ل (مَاذَا) وَأَكْثَرَ مِنَ الْمَعَانِي وَلَمْ يُحَرِّرِ انْتِسَابَ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يُونُس: ٣٢] الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦] .

وَالْمُجْرِمُونَ: أَصْحَابُ الْجُرْمِ وَهُوَ جُرْمُ الشِّرْكِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَتى هذَا

الْوَعْدُ

[يُونُس: ٤٨] ، وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عِوَضَ أَنْ يُقَالَ مَاذَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْرَامِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي اسْتِعْجَالِ الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ فَيَصِيرُونَ إِلَى الْآخِرَةِ حَيْثُ يُفْضُونَ إِلَى الْعَذَابِ الْخَالِدِ فَشَأْنُهُمْ أَنْ يَسْتَأْخِرُوا الْوَعْدَ لَا أَنْ يَسْتَعْجِلُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنْهُ إِلَّا شَرًّا.

وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ (ثُمَّ) فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَ وُقُوعَهُ حِينَ وُقُوعِهِ بِهِمْ أَغْرَبُ وَأَهَمُّ مِنِ اسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّشْرِيكِ. وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ أَإِذَا مَا وَقَعَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِفْهَامَ عَنِ الْمُهْلَةِ.

وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ حُصُولُ الْإِيمَانِ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْعَذَابِ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِمَعْنَى التَّغْلِيطِ وَإِفْسَادِ رَأْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَعَدُوا بِالْإِيمَانِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً