الْجُمْلَةِ إِضَافَتُهُ الْفَضْلَ وَالرَّحْمَةَ إِلَى اللَّهِ وَإِسْنَادُ فِعْلِ يَجْمَعُونَ إِلَى ضمير النَّاسُ [يُونُس: ٥٧] .
وَهَذَا الْفَضْلُ أُخْرَوِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ. أَمَّا الْأُخْرَوِيُّ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيُّ فَلِأَنَّ كَمَالَ النَّفْسِ وَصِحَّةَ الِاعْتِقَادِ وَتَطَلُّعَ النَّفْسِ إِلَى الْكَمَالَاتِ وَإِقْبَالَهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تُكْسِبُ الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا وَعِيشَةً هَنِيئَةً. قَالَ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفجْر: ٢٧، ٢٨] فَجَعَلَ رِضَاهَا حَالًا لَهَا وَقْتَ رُجُوعِهَا إِلَى رَبِّهَا. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ:
«وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَفْرَحَ الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ لِأَنَّ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ لَيْسَتْ غَيْرَ دَفْعِ الْآلَامِ عِنْدَ جَمْعٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْمَعْنَى الْعَدَمِيُّ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِهِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّذَّاتُ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةً فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ خَالِصَةً أَلْبَتَّةَ بَلْ تَكُونُ مَمْزُوجَةً بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَكَارِهِ وَهِيَ لَا تَكُونُ بَاقِيَةً، فَكُلَّمَا كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهَا أَكْثَرَ كَانَتِ الْحَسَرَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنْ
خَوْفِ فَوَاتِهَا أَكْثَرَ وَأَشَدَّ» .
ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ دَوَامِهَا يَقْتَضِي قِصَرَ مُدَّةِ التَّمَتُّعِ بِهَا بِخِلَافِ اللَّذَّات الروحانية.
[٥٩]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٥٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)
اسْتِئْنَافٌ أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ للْمُشْرِكين. وافتتاحه ب قُلْ لِقَصْدِ تَوَجُّهِ الْأَسْمَاعِ إِلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ حَكَى تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُ مُفْتَرًى وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، ثُمَّ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُفْتَرًى عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى تَفْصِيلِ الشَّرِيعَةِ وَتَصْدِيقِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَلِأَنَّهُ أَعْجَزَ مُكَذِّبِيهِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. فَلَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ، وَبَانَتْ لِقَاصِدِ الِاهْتِدَاءِ الْمَحَجَّةُ، لَا جَرَمَ دَالَتِ النَّوْبَةُ إِلَى إِظْهَارِ خَطَلِ عُقُولِهِمْ وَاخْتِلَالِ تَكْذِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَكْذِيبًا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ فَقَدِ ارْتَبَكُوا فِي دِينِهِمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْهُ مُمَاثِلَةُ الْحَالَةِ الَّتِي أَنْكَرُوهَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ وَضَعُوا دِينًا فَجَعَلُوا بَعْضَ أَرْزَاقِهِمْ حَلَالًا لَهُمْ وَبَعْضَهَا حَرَامًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.patreon.com/shamela4