للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَمَعْنَى لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ خَائِفٌ، أَيْ هُمْ بِمَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَكْرُوهٌ يُخَافُ مِنْ إِصَابَةِ مِثْلِهِ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَهْجِسُ فِي نُفُوسِهِمُ الْخَوْفَ مِنَ الْأَعْدَاءِ هَجْسًا مِنْ جِبِلَّةِ تَأَثُّرِ النُّفُوسِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ بَوَادِرِ الْمَخَافَةِ، فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْأَحْوَالِ بِنَظَرِ الْيَقِينِ سَلِيمًا مِنَ التَّأَثُّرِ بِالْمَظَاهِرِ، فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخَافَ، وَلِذَلِكَ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَاقِبَةِ مَا يَتَوَجَّسُونَ مِنْهُ خِيفَةً، فَالْخَوْفُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْآيَةِ يُقَدَّرُ مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ غَيْرُهُمْ لَا مَحَالَةَ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَخَافُهُ خَائِفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِذَا اعْتَرَاهُمُ الْخَوْفُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْقَشِعَ عَنْهُمْ وَتَحُلَّ السَّكِينَةُ مَحَلَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: ٢٥، ٢٦] ، وَقَالَ لِمُوسَى: لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه: ٧٧] ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ يَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ

وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»

. ثُمَّ خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: ٤٥] .

وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ تَغَيَّرَ الْأُسْلُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَأَسْنَدَ فِيهِ الْحُزْنَ الْمَنْفِيَّ إِلَى ضَمِيرِ أَوْلِياءَ اللَّهِ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِهِ، وَإِيرَادِ الْفِعْلِ بَعْدَهُ مُسْنَدًا مُفِيدًا تَقَوِّي الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْحُزْنَ هُوَ انْكِسَارُ النَّفْسِ مِنْ إِثْرِ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهَا فَهُوَ لَا تُوجَدُ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهِ، وَالْخَوْفُ يَكُونُ قَبْلَ حُصُولِهِ، ثُمَّ هُمْ وَإِنْ كَانُوا يَحْزَنُونَ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ أُمُورٍ فِي الدُّنْيَا

كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّا لِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُنُونَ»

فَذَلِكَ حُزْنٌ وِجْدَانِيٌّ لَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَزُولُ بِالصَّبْرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمُ الْحُزْنُ الدَّائِمُ وَهُوَ حَزْنُ

الْمَذَلَّةِ وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَزَوَالِ دَيْنِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ بِإِدْخَالِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى تَرْكِيبٍ مُفِيدٍ لِتَقَوِّيِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لِأَنَّ جُمْلَةَ: هُمْ يَحْزَنُونَ يُفِيدُ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا تَقَوِّي الْحُكْمِ الْحَاصِلِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَالْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْفٌ مُتَمَكِّنٌ ثَابِتٌ يَبْقَى فِيهِمْ وَلَا يَجِدُونَ تَخَلُّصًا مِنْهُ.