للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَهُ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَرَادَ بِهِ إِظْهَارَ رِفْقِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ.

وَمَعْنَى فَعُمِّيَتْ فَخَفِيَتْ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، إِذْ شُبِّهَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْهَا الْمُخَاطَبُونَ كَالْعَمْيَاءِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَهْتَدِي لِلْوُصُولِ إِلَى مَقْصِدِهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ. وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى: الْخَفَاءِ عدي فعل (عميت) بِحَرْفِ (عَلَى) تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ. وَفِي ضِدِّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاء:

٥٩] ، أَيْ آتَيْنَاهُمْ آيَةً وَاضِحَةً لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهَا لِأَنَّهَا آيَةٌ مَحْسُوسَةٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جَحْدُهُمْ إِيَّاهَا ظُلْمًا فَقَالَ: فَظَلَمُوا بِها [الْإِسْرَاء: ٥٩] .

وَمِنْ بَدِيعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُنَا أَنَّ فِيهَا طِبَاقًا لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِمْ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ [هود: ٢٧] . فَقَابَلَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَامَهُمْ مُقَابَلَةً بِالْمَعْنَى وَاللَّفْظِ إِذْ جَعَلَ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ مِنْ قَبِيلِ الْعَمَى.

وَعَطْفُ (عُمِّيَتْ) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ إِيتَائِهِ الْبَيِّنَةَ وَالرَّحْمَةَ وَبَيْنَ خَفَائِهَا عَلَيْهِمْ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ.

وَجُمْلَةُ أَنُلْزِمُكُمُوها سَادَّةُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ الْفِعْلَ عُلِّقَ عَنِ الْعَمَلِ بِدُخُولِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ.

وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فَعْلُ أَرَأَيْتُمْ وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ. وَتَقْدِير الْكَلَام: قَالَ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى آخِرِهِ أَتَرَوْنَ أَنُلْزِمُكُمْ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.

وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ لَكَانَ لَهُ

أَعْوَانٌ عَلَيْهِ وَهُمْ أَتْبَاعُهُ فَأَرَادَ أَنْ لَا يُهْمِلَ ذِكْرَ أَتْبَاعِهِ وَأَنَّهُمْ أَنْصَارٌ لَهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَهِيبَ بِهِمْ. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ تَحْقِيرِ الْآخَرِينَ إِيَّاهُمْ.