للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلَى صدق الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَتَضَمَّنَتْ أَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا غَيْرُ مُصَدِّقِينَهُ عِنَادًا وَإِعْرَاضًا عَنْ آيَاتِ الصِّدْقِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- سُنَّةٌ إلهية قديمَة فَلَمَّا ذَا يَجْعَلُ الْمُشْرِكُونَ نُبُوءَتَكَ أَمْرًا مُسْتَحِيلًا فَلَا يُصَدِّقُونَ بِهَا مَعَ مَا قَارَنَهَا مِنْ آيَاتِ الصِّدْقِ فَيَقُولُونَ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا. وَهَلْ كَانَ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- السَّابِقُونَ إِلَّا رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَوْحَى الله إِلَيْهِم فبمَاذَا امْتَازُوا عَلَيْكَ، فَسَلَّمَ الْمُشْرِكُونَ بِبَعْثَتِهِمْ وَتَحَدَّثُوا بِقِصَصِهِمْ وَأَنْكَرُوا نُبُوءَتَكَ.

وَرَاءَ هَذَا مَعْنًى آخَرُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِاسْتِوَاءِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَمَا لَقُوهُ مِنْ أَقْوَامِهِمْ فَهُوَ وَعِيدٌ بِاسْتِوَاءِ الْعَاقِبَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ.

ومِنْ قَبْلِكَ يَتَعَلَّقُ بِ أَرْسَلْنا فَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْأَزْمِنَة فَصَارَ مَا صدق الْقَبْلِ الْأَزْمِنَةَ السَّابِقَةَ، أَيْ مِنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْإِرْسَالِ. وَلَوْلَا وُجُودُ مِنْ لَكَانَ قَبْلِكَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لِلْمُرْسَلِينَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ الْإِرْسَالِ.

وَالرِّجَالُ: اسْمُ جِنْسٍ جَامِدٌ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَأُطْلِقَ هُنَا مُرَادًا بِهِ أُنَاسًا

كَقَوْلِهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»

، أَيْ إِنْسَانٌ أَوْ شَخْصٌ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَرْأَةِ. وَاخْتِيرَ هُنَا دُونَ غَيْرِهِ لِمُطَابَقَتِهِ الْوَاقِعَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلًا مِنَ النِّسَاءِ لِحِكْمَةِ قَبُولِ قِيَادَتِهِمْ فِي نُفُوسِ الْأَقْوَامِ إِذِ الْمَرْأَةُ مُسْتَضْعَفَةٌ عِنْدَ الرِّجَالِ دُونَ الْعَكْسِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ تَنَبَّأَتْ سِجَاحِ:

أَضْحَتْ نَبِيئَتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا

وَلَيْسَ تَخْصِيصُ الرِّجَالِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ عَنِ النِّسَاءِ وَمِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ مَنْ سَلَّمُوا بِرِسَالَتِهِمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالُوا:

فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] وقالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] ، أَيْ فَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ حَتَّى تُبَادِرُوا بِإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ وَتُعْرِضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ.