للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ هَذِهِ التَّمَوُّجَاتُ الَّتِي تَخْلُصُ إِلَى عُقُولِ أَهْلِ هَذِهِ النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا تَخْلُصُ إِلَيْهَا مُقَطَّعَةً مُجْمَلَةً فَيَسْتَعِينُ أَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ على تأليفها وتأليفها بِمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ ذَكَاءٍ وَزَكَانَةٍ، وَيُخْبِرُونَ بِحَاصِلِ مَا اسْتَخْلَصُوهُ مِنْ بَيْنِ مَا تَلَقَّفُوهُ وَمَا أَلَّفُوهُ وَمَا أَوَّلُوهُ. وَهُمْ فِي مُصَادَفَةِ بَعْضِ الصِّدْقِ مُتَفَاوِتُونَ عَلَى مِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي حِدَّةِ الذَّكَاءِ وَصَفَاءِ الْفَهْمِ وَالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى مِقْدَارِ دُرْبَتِهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِي مُعَالَجَةِ مِهْنَتِهِمْ وَتَقَادُمِ عَهْدِهِمْ فِيهَا. فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْكُهَّانُ، وَكَانُوا كَثِيرِينَ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَتَخْتَلِفُ سُمْعَتِهِمْ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ بِمِقْدَارِ مُصَادَفَتِهِمْ لِمَا فِي عُقُولِ أَقْوَامِهِمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ لِسَذَاجَةِ عُقُولِ الْقَوْمِ أَثَرًا مَا، وَكَانَ أَقْوَامُهُمْ يَعُدُّونَ الْمُعَمَّرِينَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِصَابَةِ فِيمَا يُنْبِئُونَ بِهِ، وَهُمْ بِفَرْطِ فطنتهم واستغفالهم البله مِنْ مُرِيدِيهِمْ لَا يُصْدِرُونَ إِلَّا كَلَامًا مُجْمَلًا مُوَجَّهًا قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِعِدَّةِ احْتِمَالَاتٍ، بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُونَ بِالتَّكْذِيبِ الصَّرِيحِ، فَيَكِلُونَ تَأْوِيلَ كَلِمَاتِهِمْ إِلَى مَا يَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ الْأَغْرَاضِ الصَّادِرَةِ فِيهَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَكَلَامُهُمْ خُلُوٌّ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْحَقَائِقِ الصَّالِحَةِ.

وَهُمْ بِحِيلَتِهِمْ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَيَادِينِ النُّفُوسِ وَمُؤْثِرَاتِهَا الْتَزَمُوا أَنْ يَصُوغُوا كَلَامَهُمُ الَّذِي يُخْبِرُونَ بِهِ فِي صِيغَةٍ خَاصَّةٍ مُلْتَزَمًا فِيهَا فِقْرَاتٌ قَصِيرَةٌ مُخْتَتَمَةٌ بِأَسْجَاعٍ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْسَبُونَ مُزَاوَجَةَ الْفِقْرَةِ لِأُخْتِهَا دَلِيلًا عَلَى مُصَادَفَتِهَا الْحَقَّ وَالْوَاقِعَ، وَأَنَّهَا أَمَارَةُ صِدْقٍ.

وَكَانُوا فِي الْغَالِبِ يَلُوذُونَ بِالْعُزْلَةِ، وَيُكْثِرُونَ النَّظَرَ فِي النُّجُومِ لَيْلًا لِتَتَفَرَّغَ أَذْهَانُهُمْ. فَهَذَا حَالُ الْكُهَّانِ وَهُوَ قَائِم على أسس الدَّجَلِ وَالْحِيلَةِ وَالشَّعْوَذَةِ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٍ تَخْتَرِقُ الْحَوَاجِزَ الْمَأْلُوفَةَ.

وَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا

فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ (أَيْ لَا وُجُودَ لِمَا يَزْعُمُونَهُ) . فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ