للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اللَّهِ فَقَالُوا: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادَ الْمُتَعَجِّبِ مِنْ حُصُولِهِ كَانَ ذَلِكَ أَثَرًا مِنْ آثَارِ رُسُوخِ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَمْ يُقْلِعْهُ مِنْهَا الْخَبَرُ الَّذِي يَعْلَمُ صِدْقَهُ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ فَقَارَبَتْ حَالُهُ تِلْكَ حَالَ الَّذِينَ يَيْأَسُونَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَام- منزّها عَن الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ جَاءُوا فِي مَوْعِظَتِهِ بِطَرِيقَةِ الْأَدَبِ الْمُنَاسِبِ فَنَهَوْهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ الْقَانِطِينَ تَحْذِيرًا لَهُ مِمَّا يُدْخِلُهُ فِي تِلْكَ الزُّمْرَةِ، وَلَمْ يَفْرِضُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ قَانِطًا لرفعة مقَام نبوءته عَنْ ذَلِكَ. وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَحَالِهِ فِي مَقَامِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٦٠] .

وَهَذَا النَّهْيُ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [سُورَة هود: ٤٦] .

وَقَدْ ذَكَّرَتْهُ الْمَوْعِظَةُ مَقَامًا نَسِيَهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الضَّالُّونَ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبِ عَنْهُ اجْتِنَابُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ امْتَلَكَهُ الْمُعْتَادُ فَتَعَجَّبَ فَصَارَ ذَلِكَ كَالذُّهُولِ عَنِ الْمَعْلُومِ فَلَمَّا نَبَّهَهُ الْمَلَائِكَةُ أدنى تَنْبِيه تذكّر.

الْقُنُوطُ: الْيَأْسُ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَنْ يَقْنَطُ- بِفَتْحِ النُّونِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ النُّونِ- وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فِعْلِ قَنَطَ.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَنَطَ يَقْنَطُ- بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ- مِنْ أَعْلَى اللُّغَاتِ. قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [سُورَة الشورى: ٢٨] .

قُلْتُ: وَمِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ اخْتِيَارُهُ كُلَّ لُغَةٍ فِي مَوْضِعِ كَوْنِهَا فِيهِ أَفْصَحَ، فَمَا جَاءَ فِيهِ إِلَّا الْفَتْحُ فِي الْمَاضِي، وَجَاءَ الْمُضَارِعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ على الْقِرَاءَتَيْن.