للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أُولَئِكَ مَعَ الْإِلَهِ الْحَقِّ الْقَادِرِ الْمُتَصَرِّفِ. وَإِنَّمَا أُجْرِيَ ضَمِيرُ جَمْعِهِمْ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْعَالَمِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ أَحَدِ التَّمْثِيلَيْنِ وَهُوَ جَانِبُ الْإِلَه الْقَادِر.

[٧٦]

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٦]

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)

هَذَا تَمْثِيلٌ ثَانٍ لِلْحَالَتَيْنِ بِحَالَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ وَجْهِ الشَّبَهِ. فَاعْتُبِرَ هُنَا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَالِ الْأَبْكَمِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَعَنِ الْعَمَلِ، وَتَعَذُّرُ الْفَائِدَةِ مِنْهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ الْكَامِلِ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ فِي إِدْرَاكِهِ الْخَيْرَ وَهَدْيِهِ إِلَيْهِ وَإِتْقَانِ عَمَلِهِ وَعَمَلِ مَنْ يَهْدِيهِ، ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِكَمَالِهِ وَإِرْشَادِهِ النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ، وَمَثَلًا لِلْأَصْنَامِ الْجَامِدَةَ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ.

وَقَدْ قَرَنَ فِي التَّمْثِيلِ هُنَا حَالَ الرَّجُلَيْنِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ فَصَّلَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَعَ ذِكْرِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِأُسْلُوبٍ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بَدِيعِ الْإِيجَازِ، إِذْ حَذَفَ مَنْ صَدْرِ التَّمْثِيلِ ذِكْرَ الرَّجُلِ الثَّانِي لِلِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِهِ فِي اسْتِنْتَاجِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ تَفَنُّنًا فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ أُسْلُوبِ هَذَا التَّمْثِيلِ وَأُسْلُوبِ سَابِقِهِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً [سُورَة النَّحْل: ٧٥] . وَمِثْلُ هَذَا التَّفَنُّنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ كَرَاهِيَةً لِلتَّكْرِيرِ لِأَنَّ تَكْرِيرَ الْأُسْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْأَلْفَاظِ.

وَالْأَبْكَمُ: الْمَوْصُوفُ بِالْبَكَمِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْكَافِ- وَهُوَ الْخَرَسُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهِمُ. وَزِيدَ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ زَمِنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ