للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُمَا الْأَفْئِدَةَ، أَيِ الْعَقْلَ مَقَرَّ الْإِدْرَاكِ كُلِّهِ، فَهُوَ الَّذِي تَنْقُلُ إِلَيْهِ الْحَوَاسُّ مُدْرَكَاتِهَا، وَهِيَ الْعِلْمُ بِالتَّصَوُّرَاتِ الْمُفْرَدَةِ.

وَلِلْعَقْلِ إِدْرَاكٌ آخَرُ وَهُوَ إِدْرَاكُ اقْتِرَانِ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهُوَ التَّصْدِيقَاتُ الْمُنْقَسِمَةُ إِلَى الْبَدِيهِيَّاتِ: كَكَوْنِ نَفْيِ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَكَكَوْنِ الْكُلِّ أَعْظَمَ مِنَ الْجُزْءِ.

وَإِلَى النَّظَرِيَّاتِ وَتُسَمَّى الْكَسْبِيَّاتُ، وَهِيَ الْعِلْمُ بِانْتِسَابِ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ إِلَى الْآخَرِ بَعْدَ حَرَكَةِ الْعَقْلِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوِ التَّفْرِيقِ، مِثْلُ أَنْ يَحْضُرَ فِي الْعَقْلِ: أَنَّ الْجِسْمَ مَا هُوَ، وَأَنَّ الْمُحْدَثَ- بِفَتْحِ الدَّالِّ- مَا هُوَ. فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ لَا يَكْفِي فِي جَزْمِ الْعَقْلِ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عُلُومٍ أُخْرَى سَابِقَةٍ وَهِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ مَاهِيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ وَصِفَةِ الْحُدُوثِ.

فَالْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ. وَحُصُولُ هَذِهِ الْعُلُومِ

الْبَدِيهِيَّةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ حُدُوثِ تَصَوُّرِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَصَوُّرِ مَحْمُولَاتِهَا. وَحُدُوثُ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ إِعَانَةِ الْحَوَاسِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، فَكَانَتِ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ هِيَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْعُلُومِ، وَكَانَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ أَوَّلَ الْحَوَاسِّ تَحْصِيلًا لِلتَّصَوُّرَاتِ وَأَهَمَّهَا.

وَهَذِهِ الْعُلُومُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلُطْفٌ، لِأَنَّ بِهَا إِدْرَاكَ الْإِنْسَانِ لِمَا يَنْفَعُهُ وَعَمَلَ عَقْلِهِ فِيمَا يَدُلُّهُ عَلَى الْحَقَائِقِ، لِيَسْلَمَ مِنَ الْخَطَأِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَالْأَرْزَاءِ الْعَظِيمَةِ، فَهِيَ نِعْمَةٌ كُبْرَى. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَقِبَ ذِكْرِهَا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَيْ هِيَ سَبَبٌ لِرَجَاءِ شُكْرِهِمْ وَاهِبَهَا سُبْحَانَهُ.

وَالْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مَضَى غَيْرَ مَرَّةٍ فِي نَظِيره ومماثله.