للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ «مَا عِنْدَ اللَّهِ» هُوَ مَا ادَّخَرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سُورَة النَّحْل: ٩٧] الْآيَةَ فَخَيْرُ الدُّنْيَا الْمَوْعُودُ بِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَبْذُلُهُ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَخَيْرُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، فَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الِادِّخَارِ لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ: لَكَ عِنْدِي كَذَا، وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [سُورَة الْأَنْعَام: ٥٩] وَقَوْلُهُ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [سُورَة الْحجر: ٢١] وَقَوْلُهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ.

وإِنَّما هَذِهِ مَرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنَّ) وَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ، فَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً (مَا) عَنْ (إِنَّ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ (مَا) الْكَافَّةَ، وَلَكِنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ مَوْصُولَةً اعْتِبَارًا لِحَالَةِ النُّطْقِ وَلَمْ يَكُنْ وَصْلُ أَمْثَالِهَا مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْمُصْحَفِ.

وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَغُرُّكُمُ الْعَاجِلُ. وَفِيهِ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالْعِلْمِ.

وَجُمْلَةُ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ تَذْيِيلٌ وَتَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَهُمْ خَيْرٌ مُتَجَدِّدٌ لَا نَفَادَ لَهُ، وَأَنَّ مَا يُعْطِيهِمُ الْمُشْركُونَ مَحْدُود نافد لِأَنَّ خَزَائِنَ النَّاسِ صَائِرَةٌ إِلَى النَّفَادِ بِالْإِعْطَاءِ وَخَزَائِنُ اللَّهِ بَاقِيَةٌ.

وَالنَّفَادُ: الِانْقِرَاضُ. وَالْبَقَاءُ: عَدَمُ الْفَنَاءِ.

أَيْ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَفْنَى فَالْأَجْدَرُ الِاعْتِمَادُ عَلَى عَطَاءِ اللَّهِ الْمَوْعُودِ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الِاعْتِمَادِ عَلَى عَطَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ يَنْفَدُ رِزْقُهُمْ وَلَوْ كَثُرَ.

وَهَذَا الْكَلَامُ جَرَى مَجْرَى التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، وَأُرْسِلَ إِرْسَالَ الْمَثَلِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَعَمَّ، وَلِذَلِكَ كَانَ ضَمِيرُ عِنْدَكُمْ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِقَرِينَةِ التَّذْيِيلِ وَالْمَثَلِ، وَبِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا عِنْدَ الْمَوْعُودِ وَمَا عِنْدَ الْوَاعِدِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيِّينَ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ لَيْسَ بِيَدِهِمْ شَيْءٌ.