للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمِنْ قَبِيلِهَا اسْتِعَارَةُ (الْبِلَى) لِزَوَالِ صِفَةِ الشَّخْصِ تَشْبِيهًا لِلزَّوَالِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ بِبِلَى الثَّوْبِ بَعْدَ جِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي الْغُولِ الطَّهَوِيِّ:

وَلَا تَبْلَى بَسَالَتُهُمْ وَإِنْ هُمُ ... صُلُوا بِالْحَرْبِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ

وَاسْتِعَارَةُ سَلِّ الثِّيَابِ إِلَى زَوَالِ الْمُعَاشَرَةِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فَسُلِّي ثِيَابِي عَنْ ثِيَابِكِ تَنْسِلِ وَمِنْ لَطَائِفِ الْبَلَاغَةِ جَعْلُ اللِّبَاسِ لِبَاسَ شَيْئَيْنِ، لِأَنَّ تَمَامَ اللُّبْسَةِ أَنْ يَلْبِسَ الْمَرْءُ إِزَارًا وَدِرْعًا.

وَلَمَّا كَانَ اللِّبَاسُ مُسْتَعَارًا لِإِحَاطَةِ مَا غَشِيَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَمُلَازَمَتِهِ أُرِيدَ إِفَادَةُ أَنَّ ذَلِكَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَمُسْتَقِرٌّ فِي إِدْرَاكِهِمِ اسْتِقْرَارَ الطَّعَامِ فِي الْبَطْنِ إِذْ يُذَاقُ فِي اللِّسَانِ وَالْحَلْقِ وَيُحَسُّ فِي الْجَوْفِ وَالْأَمْعَاءِ.

فَاسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ الْإِذَاقَةِ تَمْلِيحًا وَجَمْعًا بَيْنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، لِأَنَّ غَايَةَ الْقِرَى وَالْإِكْرَامِ أَنْ يُؤْدَبَ لِلضَّيْفِ وَيُخْلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً مِنْ إِزَارٍ وَبُرُدٍ، فَكَانَتِ اسْتِعَارَتَانِ تَهَكُّمِيَّتَانِ.

فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَتَانِ: الْأُولَى: اسْتِعَارَةُ الْإِذَاقَةِ وَهِيَ تَبَعِيَّةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَالثَّانِيَةُ:

اللِّبَاسِ وَهِيَ أَصْلِيَّةٌ مُصَرِّحَةٌ.

وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ أَنْ جُعِلَتِ الثَّانِيَةُ مُتَفَرِّعَةً عَلَى الْأَوْلَى وَمُرَكَّبَةً عَلَيْهَا بِجَعْلِ لَفْظِهَا مَفْعُولًا لِلَفْظِ الْأُولَى. وَحَصَلَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ مُحِيطَانِ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي سَائِرِ

أَحْوَالِهِمْ وَمُلَازِمَانِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ بَالِغَانِ مِنْهُمْ مَبْلَغًا أَلِيمًا.

وَأَجْمَلَ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ اعْتِمَادًا عَلَى سَبَقِ مَا يُبَيِّنُهُ مِنْ قَوْله: فكفرت بأنعام الله.