للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى

قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ (أَيْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ) أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ»

. وَمَعْنَى اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْوَاقِعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ بُنِيَ عَلَى أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ أُصُولُ الْفِطْرَةِ، وَالتَّوَسُّطُ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَاللِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [سُورَة الْحَج: ٧٨] .

وَفِي قَضِيَّةِ أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، ثُمَّ فِدَائِهِ بِذَبْحِ شَاةٍ رَمَزٌ إِلَى الِانْتِقَالِ مِنْ شِدَّةِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى فِي قَرَابِينِهَا إِلَى سَمَاحَةِ دِينِ اللَّهِ الْحَنِيفِ فِي الْقُرْبَانِ بِالْحَيَوَانِ دُونَ الْآدَمِيِّ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سُورَة الصافات:

١٠٧] .

فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي تُبْنَى تَفَاصِيلُهَا وَتَفَارِيعُهَا عَلَى أُصُولِ شَرِيعَةٍ تُعْتَبَرُ كَأَنَّهَا تِلْكَ الشَّرِيعَةُ.

وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ فِي الْإِسْلَامِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: قَالَهُ اللَّهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ قَدْ جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذْ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ شَرِيعَةٌ قَانُونِيَّةٌ

سُلْطَانِيَّةٌ، وَشَرْعُ إِبْرَاهِيمَ شَرِيعَةٌ قَبَائِلِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِقَوْمٍ، وَلَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ابْتِدَاءً قَبْلَ أَنْ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَرَائِعِ دِينِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَتَحْتَمِلُهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ.