للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْقُرْآنِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَرَاتِبَ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ وَيَزِنُونَهُمْ بِمِعْيَارِ مَوَازِينِ نُفُوسِهِمْ، فَحَسِبُوا مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ مُثَبِّطًا لَهُ وَمُوشِكًا لِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ دَعْوَتِهِمْ.

وَسَبِيلُ الرَّبِّ: طَرِيقُهُ. وَهُوَ مُجَازٌ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَلِّغَ عَامِلَهُ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَحْصُلُ لِعَامِلِهِ غَرَضٌ مَا يُشْبِهُ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ إِلَى مَكَانٍ مَقْصُودٍ، فَلِذَلِكَ يُسْتَعَارُ اسْمُ السَّبِيلِ لِسَبَبِ الشَّيْءِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ الْأَمْرِ بِمُهَادَنَةٍ قُرَيْشٍ، أَيْ فِي مُدَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.

وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ لَمَّا أَحْزَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْظَرُ الْمُثْلَةِ بِحَمْزَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَالَ: «لَأَقْتُلَنَّ مَكَانَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ»

. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ.

وَلَا أَحْسَبُ مَا ذَكَرَاهُ صَحِيحًا. وَلَعَلَّ الَّذِي غَرَّ مَنْ رَوَاهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النَّحْل: ١٢٦] كَمَا سَيَأْتِي، بَلْ مَوْقِعُ الْآيَةِ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى إِيجَادِ سَبَبِ نُزُولٍ.

وَإِضَافَةُ سَبِيلِ إِلَى رَبِّكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِالْتِزَامِهِ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَصَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سُورَة الْأَنْفَال: ٣٦] ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ عَقِبَهُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [سُورَة النَّحْل:

١٢٥] .

وَيُطْلَقُ سَبِيلُ اللَّهِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ أَيْضًا عَلَى نُصْرَةِ الدَّيْنِ بِالْقِتَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سُورَة التَّوْبَة: ٤١] .

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحِكْمَةِ لِلْمُلَابَسَةِ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ لِلْمُعَرِّسِ: بِالرِّفَاءِ

وَالْبَنِينَ، بِتَقْدِيرِ: أَعْرَسْتَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَهِيَ إِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِ ادْعُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ادْعُ.