للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ تَأْدِيبُ الْأُمَّةِ فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَإِلَانَةِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَنُمُّ عَنِ الْمَقَاصِدِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ تَأْدِيبُهُمْ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ اجْتِنَابًا لِمَا تُثِيرُهُ الْمُشَادَّةُ وَالْغِلْظَةُ مِنِ ازْدِيَادِ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَصَلُّبِهِمْ فَذَلِك من نزع الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصّلت: ٣٤] . وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ وَقَدْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضُرَّ أَعْدَائِهِمْ بِتَصَارِيفَ مِنْ لُطْفِهِ لِيَكُونُوا آمِنِينَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا سَبَبًا فِي إِفْسَادِ تِلْكَ الْحَالَةِ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِعِبادِي الْمُؤْمِنُونَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْعُنْوَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْلَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَقُولُوا لِلْمُشْرِكِينَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، أَيْ بِالْإِيمَانِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ،

فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

وَجَزَمَ يَقُولُوا عَلَى حَذْفِ لَامِ الْأَمْرِ وَهُوَ وَارِدٌ كَثِيرًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَقُولُوا جَوَابًا مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مَعَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ: قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا ذَلِكَ. فَيَكُونُ كِنَايَةً عَلَى أَنَّ الِامْتِثَالَ شَأْنُهُمْ فَإِذَا أُمِرُوا امْتَثَلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٣١] .

وَالنَّزْغُ: أَصْلُهُ الطَّعْنُ السَّرِيعُ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْإِفْسَادِ السَّرِيعِ الْأَثَرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٠] .

وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ أَنْ لَا يَسْتَخِفُّوا بِفَاسِدِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهَا تُثِيرُ مَفَاسِدَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.