للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلِلْمُفَسِّرِينَ بِضْعَةُ مَحَامِلَ أُخْرَى لِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ، فَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْقَبُولِ لِوَهَنِ سَنَدِهِ وَعَدَمِ انْطِبَاقِهِ عَلَى مَعَانِي الْآيَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَتَتَحَمَّلُهُ الْآيَةُ بِتَكَلُّفٍ. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ راودوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسَوِّيَهُمْ مَعَ مَنْ يَعُدُّونَهُمْ مُنْحَطِّينَ عَنْهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عِنْدَهُمْ مِثْلِ: بِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَخَبَّابٍ، وَصُهَيْبٍ، وَأَنَّهُمْ وَعَدُوا النَّبِيءَ إِنْ هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْلِسُوا إِلَيْهِ وَيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ حِين لَا يَكُونُ فِيهِ تَنْقِيصُ آلِهَتِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ هَمَّ بِأَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ بَعْضَ اللِّينِ رَغْبَةً فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بَعْضَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَهُوَ مَا فِيهِ فَضْلُ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَة [الْأَنْعَام: ٥٢] ، أَوْ مَا فِيهِ تنقيص الْأَصْنَامِ.

وَسِمَاتُ التَّخَرُّصِ وَضِيقِ الْعَطَنِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِحَاقِّ أَلْفَاظِهَا بَادِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ هَاتِهِ الْأَخْبَارِ. وَإِذْ قَدْ مُلِئَتْ بِهَا كُتُبُ التَّفْسِيرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَمْثَلِ مَا يُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَخْبَارَ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةً لِلنَّاظِرِينَ فَنَقُولُ:

إِنَّ رَغْبَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اقْتِرَابِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَفِي تَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ، أَجَالَتْ فِي خَاطِرِهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى بَعْضِ مَا دَعَوْهُ إِلَيْهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى تَخْفِيفِ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ أَوْ إِنْظَارِهِمْ أَوْ إِرْضَاءِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ بِالتَّخَلِّي عَنْ مَجْلِسِهِ حِينَ يَحْضُرُهُ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُنْتَدَبُونَ إِلَى ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَيْسَ فِيهِ فَوَاتُ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ كَادُوا يَصْرِفُونَكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ مِمَّا هُوَ مُخَالِفٌ لما سَأَلُوهُ.

فالموصول فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِلْعَهْدِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَسَبِ مَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْمَنِّ عَلَى النَّبِيءِ بِعِصْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَمَسَاقُ إِظْهَارِ مِلَلِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَخَوُّفِهِمْ مِنْ عَوَاقِبِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَتَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَنْ

يَكُونَ.