للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرُّوحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ كَائِنٌ عَظِيمٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ. فَلَفْظُ أَمْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادِفَ الشَّيْءِ. فَالْمَعْنَى: الرُّوحُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ، فَإِضَافَةُ أَمْرِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَمْرٍ اخْتُصَّ بِاللَّهِ اخْتِصَاصَ عِلْمٍ.

وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْسُ الْمَصْدَرِ وَتَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً كَمَا فِي قَوْله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: ٤٠] ، أَيِ الرَّوْحُ يَصْدُرُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِتَكْوِينِهِ أَوْ يُرَادُ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْخَلْقِ وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيِ الرَّوْحُ بَعْضُ مَأْمُورَاتِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيِ الرَّوْحُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ.

وَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ» اهـ. أَيْ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لَيْسَ جَوَابًا بِبَيَانِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ عَنِ اسْتِعْلَامِهِ وَإِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُؤْتَوْهُ. وَالِاحْتِمَالَاتُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ. وَفِيهَا رَمْزٌ إِلَى تَعْرِيفِ الرُّوحِ تَعْرِيفًا بِالْجِنْسِ وَهُوَ رَسْمٌ.

وَجُمْلَةُ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلسَّائِلِينَ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ أَوْ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا أَوِ اعْتِرَاضًا فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ، وَالْمُخَاطَبُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقَلِيلِ

الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُؤْتَى مِنَ الْعِلْمِ. وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ.

وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْمَعْلُومُ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ أَوْ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ. وَوَصْفُهُ بِالْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْحَقَائِقِ.

وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» قَالُوا (أَيِ الْيَهُودُ) : «أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا التَّوْرَاةَ